وقف بيبى جريللو السياسى الايطالى المتمرد مؤخرا يحذر الأوروبيين من أنهم فى الحقيقة لا يواجهون حربا مع تنظيم داعش الارهابى أو حتى مع روسيا, وانما مع البنك المركزى الأوروبي! هذه الإدانة اللاذعة للسياسات الاقتصادية الأوروبية لم تعد شأنا داخليا فحسب، فقد كانت القضية المهيمنة على طاولة المناقشات لقمة مجموعة العشرين التى انعقدت قبل أيام فى مدينة بريسبن الأسترالية. وانكب قادة الدول العشرين، التى يمثل مجموع ناتجها المحلى 85% من الناتج العالمي، على البحث عن سبيل للنجاة من ركود عالمى يراه المراقبون وشيكا، مدفوعا بالنمو الأوروبى المخيب للآمال. وإذا كان الرئيس الروسى فلاديمير بوتين قد نال قسطا وفيرا من الهجوم فى الشق السياسى من القمة، فقد انصب جام الغضب من الجانب الاقتصادى على سياسات الاتحاد الاوروبى التى لم تزل متعثرة فى عقبة ضبط الإنفاق، حتى تدهورت معدلات نموه لتقف عند 0،2% فقط فى الربع الثالث من العام الجاري. وبادرت الولاياتالمتحدة باطلاق صافرة الانذار، فحذر جاك لو وزير الخزانة الأمريكي- قبل ساعات من بدء القمة- من أن العالم ليس بإمكانه تحمل عبء عقد تائه لأوروبا. وأكد أن الأخيرة فشلت فى التعافى الاقتصادي، وتواجه خطر الركود. وأن بلاده لم يعد بإمكانها تحمل مسئولية دفع الاقتصاد العالمى وحدها. وتسود مخاوف أمريكية من أن ينقلب التحسن فى أدائها الاقتصادى رأسا على عقب، بسبب ضعف مؤشرات النمو حول العالم . فإلى جانب أوروبا، تمر الصين بمعدلات نمو متباطئة تقف عند 7،5%، بعد أن ظلت تسجل 10% على مدار 20 عاما. فى حين، بلغت الهند أقل معدلات نمو لها منذ نحو ربع قرن ب5،4%، وسط مطالب دولية لنيودلهى بإجراء إصلاحات هيكلية. أما البرازيل فتتأرجح على عتبة الركود بمعدلات نمو وصلت الى 0،2%. بينما يعافر الاقتصاد الروسى تحت معدل ال1%. ويرى المراقبون أن المقولة الاقتصادية المأثورة بأنه إذا عطست الولاياتالمتحدة فإن سائر العالم يصاب بالانفلونزا، ستجرى بالعكس للمرة الأولي. ويؤكد ديفيد ليفى مدير مركز جيروم ليفى الاقتصادي، والذى سبق وتنبأ جده بالكساد الكبير قبل وقوعه عام 1929، أن العالم يواجه خطر الانزلاق فى كساد جديد بنهاية عام 2015، سيشد الولاياتالمتحدة اليه هذه المرة. واستند فى ذلك على أن القوى الاقتصادية الصاعدة دأبت على الاستثمار فى الهياكل التصديرية التى تجنى أرباحها من صادراتها الى الأسواق الغربية. أما الآن فلم يعد الغرب قادرا على الشراء. وسط هذه الأجواء، جاء إعلان مجموعة ال20 عن خطة طموح لدفع استثمارات البنى التحتية عالميا وزيادة الانفاق بنحو2 تريليون دولار، بعد أن أيقن المجتمعون أن السياسات المالية والنقدية لم تعد كافية لانقاذ الاقتصاد العالمي. وربما تجد الولاياتالمتحدة نفسها مضطرة للتدخل فى البيت الأوروبى لاصلاحه، وسط انبطاح الدول الأوروبية المتعثرة لخطة ضبط الانفاق التى قادتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وتبذل واشنطن محاولات مضنية لاقناع سيدة ألمانيا القوية، بأنه لابد من تحرير السياسات المالية لبرلين بعيدا عن مبدأ ضبط الموازنة، وزيادة الانفاق الحكومى وهو ما سيكون من أثره دفع القاطرة الأوروبية بأكملها. وقد يجد عدد كبير من الأوروبيين فى التدخل الأمريكى لتعديل المسار الأوروبى أملا أخيرا. ففى فرنسا، أصبحت جميع محركات النمو الفرنسى شبه ميتة حسب تأكيد دنيس فيراند رئيس معهد "كوريكسكود" البحثى الفرنسى . فى حين تواصل ايطاليا الهبوط فى دوامة الركود للعام الثالث على التوالي. ولم تعد هناك دولة فى منطقة اليورو تحقق فائضا يذكر سوى ألمانيا المنغلقة على ذاتها. ورغم أن الولاياتالمتحدة تقف بثقلها خلف مبادرة مجموعة ال20 لدفع النمو العالمي، تساور الشكوك العديد من المراقبين حول نجاحها. فمن ناحية تسير الأزمة السياسية فى شرق أوروبا و العقوبات المفروضة على روسيا فى عكس الاتجاه المرجو. فروسيا تحتل المركز التاسع من حيث حجم الاقتصاد على مستوى العالم، واستمرار العقوبات ضدها، لن يساعد موسكو أو حتى العواصمالغربية على اجتياز الركود. ومن ناحية أخري، يرى البعض أن البيان الختامى حمل تعهدات متناقضة تثير التساؤل حول جدية المبادرة. وتؤكد الحركات اليسارية العالمية أن التعهد بدعم النمو وزيادة الطلب يتعارض مع التأكيد على ضبط معدلات الديون الذى يتم من خلال خفض الانفاق. كما لم يوضح المجتمعون فى بريسبن آليات التعاون فيما بينهم لتطوير مركز استثمارات البنى التحتية. ويبدو أن البلدان ال20 لم تجد طريقا للتعامل مع إنذار الكساد العالمى و السخط الغربى من روسيا سوى ارتداء قناع بوجهين، وسط غلبة النعرة والمصالح الوطنية على الأهداف العالمية.