لم ينل المهندس محمود يونس ما يستحق من تكريم رغم مرور58 عام علي تأميم القناة, فهو الرجل الذي أوكل إليه الرئيس جمال عبد الناصر أصعب مهمة وهي القيام بعملية التأميم وترك له اختيار جميع معاونيه في هذه العملية, وفوضه بسلطة رئيس الجمهورية حتي لاتعوقه العراقيل البيروقراطية و الإدارية. يونس تخرج في عام1937 وفي العام الثاني مباشرة تخرج في الهندسة العسكرية بعد أن التحق بالجيش, ثم بكلية اركان الحرب وعمل بالقيادة العامة للجيش, ثم مدرسا بكلية اركان حرب لتدريس مادة الإدارة والتحركات وكان جمال عبد الناصر احد الطلاب بالكلية وتخرج ناصر في الكلية ليعود إليها مدرسا للشئون الإدارية ليتزامل مع محمود يونس وتجمعهما غرفة واحدة بالكلية بها مكتب لكل منهما, من هنا بدأت الصلة بين الاثنين وكان عبد الناصر يدرك مهارة يونس الإدارية وحسمه أيضا, اختير محمود يونس مديرا للمكتب الفني لمجلس قيادة الثورة واشترك في اللجنة الوزارية لتشكيل مجلس الإنتاج وفي المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي ثم عين عضوا منتدبا لمعمل التكرير بالسويس ورئيسا للجمعية لشئون البترول والثروة المعدنية, كل هذا وكان لايزال رسميا ضابطا بالقوات المسلحة ثم ترك الجيش نهائيا عند وصوله لرتبة قائمقام عقيد فلم يكن محمود يونس رجلا مسئولا رسميا فقط بل كان له دورأيضا في العمل العام, ففي عام1954 انتخب نقيبا للمهندسين وتكرر ذلك في عامي55 و1957 ثم لاتحاد نقابات المهندسين في الدول العربية, وحين وقع اختيار عبد الناصر عليه ليقود عملية التأميم قبل موعدها بخمسة وخمسين ساعة فقط كان أمام رجل ذي خبرة وعلم وأيضا ذو حس وطني رفيع فضلا عن أنه موضع ثقة, وقاد العملية بنجاح وحسم, ويكفي أن معظم رؤساء الهيئة بعده كانوا من اكتشافه ومن الذين اختارهم إلي جواره ليلة الحسم, وفي لحظة التأميم التقي يونس في مكتب محافظ القناة بالمديرين الثلاثة الكبار بالقناة وكانوا جميعا من الفرنسيين ودار حوار معهم سجله عبد الحميد ابو بكر الذي كان حاضرا ذلك اللقاء ونشره في مذكراته, ويكشف الحوار الذهول الذي أصاب المديرين الثلاثة وعجرفتهم أيضا مقابل ثقة يونس وحزمه, فقد قال لهم يونس إن كل منهم سيمارس اختصاصه فيرد عليه مينيسييه: وإذا كنا نريد أن نتجاوز هذا الاختصاص ماذا نفعل ؟, وقال له: اتصل بباريس فيرد يونس علي الفور أعتبرني باريس من الآن, مينيسييه كان يريد أن يشكك في قدرة يونس علي هذا الدور باعتباره رجلا عسكريا في المقام الأول فسأله: هل سيادتك فني رد عليه يونس نعم و قد كنت نقيبا للمهندسيين ويرد مينيسيه و لكن مسألة اللغة الفرنسية ستكون معقدة, فيجيب محمود: لاتخف سنحاول التمرين عليها كان الحوار طويلا وفيه شد وجذب واستعلاء من قبل المسئولين الفرنسيين وتلميحات تهديدات, ولكن يونس كان يرد بذكاء و ثقة وتواضع فيسألهم يونس: هل في تصرفنا شيء يضايقكم؟ ونجحت عملية التأ ميم و قام يونس بمجهود خارق ومغامرة نبيلة دون أن يخشي أن يستقبله الأجانب بالرصاص وهو يقتحم المكاتب الرئيسية في اللحظات الحرجة, لم يكن من قبل يجرؤ اي وزير مصري لعقود طويلة أن يحادث أيا منهم في التليفون, والطريف أن عبد الناصر وهو يشكل مجلس إدارة هيئة القناة لم يعين محمود يونس رئيسا لها, كان يريد وجها مدنيا وقانونيا معروفا في مصر و خارجها لذا اختار الدكتور حلمي بهجت بدوي استاذ القانون الذي تعلم في باريس وكان اسما دوليا معروفا, وجعل محمود يونس نائبا للرئيس والعضو المنتدب, وبعد العدوان الثلاثي وإعادة تشغيل القناة في عام1957 ووفاة الدكتور حلمي اختار عبد الناصر يونس لهيئة القناة وكان مرتبه في ذلك الوقت في الترتيب رقم143 اي انه كان هناك142 موظفا و مسئولا بالهيئة يفوقونه في المرتب, و انتخب يونس اكثر من مرة بمجلس الأمة عن دائرة الإسماعيلية و في عام1965 ترك محمود يونس القناة واختير نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للنقل والمواصلآت وخلفه رفيقه في ليلة التأميم المهندس مشهور احمد مشهور. وعلي الرغم من أن المرشدين الأجانب كانوا متأكدين أن القيادات المصرية غير قادرة علي إدارة القناة إلا إن الحظ لم يحالفهم ولم تتحقق آمالهم لهذا الفشل. بدأت مؤامرة انسحاب المرشدين الأجانب عندما قام مسيو( بول ريموند) نائبا عن موظفي القناة ومرشديها الفرنسيين بمقابلة محمود يونس الذي كان يقوم بدور رئيس هيئة قناة السويس بشكل عاجل كان ذلك في ليلة13 سبتمبر1956 م: وقال ريموند ليونس انه قرر هو وزملاؤه من المرشدين والموظفين الأجانب البالغ عددهم206 من المرشدين و154 موظفا أن يتركوا أعمالهم في القناة لعدم استطاعتهم التعاون معه بحجة عدم رضائهم عن معاملته لهم, وفي خلال اللقاء لمح ريموند إلي أن ثمة تعليمات قد وصلته من باريس بهذا التوقف وأن الشركة المنحلة بقرار عبد الناصر ضمنت لهم مرتباتهم وأعمالهم بل وأعلنت عن مكافأة مرتب عام لمن يترك العمل في القناة منهم. وفي الليلة الثانية, مباشرة ترك المرشدون الفرنسيون أعمالهم و جلسوا في نواديهم يطلون علي مياه القناة ويحتسون الويسكي وبجوارهم كان مراسلو الصحف الأمريكية قد تجمعوا ليشهدوا المأساة المتوقعة لتوقف الملاحة في القناة. وعندما تأكد محمود يونس من انسحاب المرشدين الأجانب في منتصف ليلة15 سبتمبر1956 م فوجئ هؤلاء برده الحاسم,( مع السلامة ونحن مستعدون لتقديم أي تسهيلات لخروجكم فورا), أما عبد الناصر فقد علق علي خروج المرشدين ببساطة قائلا: أعطيت تعليماتي بتيسير حصولهم علي تأشيرات الخروج و بأن تعزف الفرقة الموسيقية لهم عند رحيلهم نشيد( حفظ الله الملكة) آو المارسيلييز, كان من الواضح أن محمود يونس استعد لهذا اليوم جيدا وكان البديل جاهزا ففي يوم10 سبتمبر1956 م تم تعيين46 مرشدا منهم28 أجنبيا من جنسيات مختلفة أغلبهم كانوا من اليونانيين والقبارصة واليوجوسلاف وكانت تعليمات الرئيس جمال عبد الناصر( بعد التأميم مباشرة الاتصال بالدول الصديقة وطلب مساعدتها لإيفاد مرشدين للعمل في القناة وقد سارعت هذه الدول بالفعل, وفي مقدمتها اليونان وقبرص لإيفاد الأعداد المطلوبة في اقل من24 ساعة من طلبهم, ولم تتعرض الملاحة لأي تعطيل, أطلق المهندس محمود يونس علي يوم انسحاب المرشدين الأجانب من القناة يوم الامتحان, فقد انسحب في هذا اليوم(55% من موظفي الهيئة من العاملين بالوظائف الرئيسية والإدارية أو المرشدين)) وعندما جمع رئيس الهيئة مرشديه الباقين كانوا34مرشدا فقط26 عربيا و8 يونانيين كان المطلوب أن يقوموا بإرشاد40 سفينة وذلك كان متوسط عدد السفن العابرة للقناة و كان الرد الجماعي و بحماس بالموافقة. كان الفضل في نجاح الملاحة بقناة السويس برغم انسحاب الأجانب وطنية و إيمان المرشدين المصريين وكذلك من عاونهم في ذلك الوقت من المرشدين اليونانيين الذين فضلوا البقاء في الهيئة. وكانت غرفة عمليات القناة تتصل بمنظمة تضم ستة آلاف عامل وموظف وتتشعب فيها أعمال فنية كبيرة مما يجعل ربط الأشياء ببعضها معقدا لكن الدراسة التفصيلية و تحليلها جعلت كل شئ واضحا. الطريف انه في عام1975 طالب المرشدون الأجانب الذين انسحبوا عام1956 م بالعودة للعمل ثانية بالقناة, حيث تلقت هيئة قناة السويس رسائل من عدد كبير منهم للعودة إلي العمل في القناة, و بعضهم كان يعمل في القناة قبل التأميم و بالفعل تم تجديد عقود المرشدين الأجانب في قناة السويس إلي جانب حوالي270 مرشدا مصريا و ذلك لاستئناف العمل في القناة عند إعادة فتحها في5 يونيو1975 م.