يبدو أن الأجهزة الرقابية كانت تغط في نوم عميق, فقد تم تجريف ثروات الوطن, ونهب أمواله, وتحويلها تحت سمعها وبصرها إلي الخارج, دون أن تحرك ساكنا!.ولأننا أمام إجراءات روتينية, وعدالة بطيئة, فإن الأموال المنهوبة تواجه مصيرا مجهولا, ولا أحد يعرف كيف نستردها. هل بالتصالح مع الفاسدين الذين سرقوها مع سبق الإصرار والترصد, وهو حل لن يشفي غليل المصريين, أم الانتظار حتي صدور أحكام نهائية, ومن ثم تقديمها إلي الدول التي استقبلت ثروات وأموال المصريين في بنوكها.. ولا يخفي علي أحد أن العديد من المصارف لا تعترف بقوانين, ولا اتفاقيات, ولا أحكام قضائية, فهي تتلقي الأموال الحرام المتحصلة عن أنشطة غير مشروعة.. والسؤال الآن: أي الطرق أسهل وأضمن لاسترداد أموالنا المنهوبة: المصالحة أم المحاكمة؟! التصالح جائز قانونا في جرائم الأموال.. هكذا قال لي سامح عاشور نقيب المحامين, ومن ثم لا مانع منه إذا كان التصالح سيضيف إلي رصيدنا النقدي, لكني لا أوافق علي التصالح في القضايا الاجرامية الأخري التي يجري محاكمة رموز النظام السابق عليها مثل قتل المتظاهرين! ويضيف نقيب المحامين: بشكل عام, فإن ماجري من نهب وتهريب للأموال والثروات لايمكن حصره بشكل دقيق لأنه غير مقنن, لكن المؤكد أن هناك تقصيرا ما حدث من جانب الأجهزة الرقابية التي انشغلت بالقضايا الفرعية, ويبدو أن الإرادة السياسية للدولة كانت تسير في إطار حماية الكبار, والعصف بالصغار كثمن يريح الرأي العام الغاضب. أما السبيل إلي استرداد الأموال المهربة, فالأمر يحتاج في رأي نقيب المحامين- إلي عمل مؤسسي, من خلال فريق عمل متخصص في مثل هذه القضايا, فاسترداد الأموال لا يتعلق بالسياسة فقط, ولا بالقانون فقط, وإنما الاثنان معا, ومعهما الجهود الدبلوماسية التي تحمي كل هذه الجهود القانونية, صحيح أن هناك لجان قانونية وقضائية مصرية تعمل علي دراسة سبل استرداد الأموال المنهوبة, لكننا بحاجة علي أدوات محترفة, ومن حيث المبدأ, تري الدكتورة فوزية عبد الستار أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق- جامعة القاهرة أن المخطئ لابد أن ينال جزاءه عما اقترفه من جرائم, ففكرة التصالح تعني أننا نبيع حقنا بالأموال, ونشجع الآخرين علي السرقة والنهب من المال العام, فالعدوان كان جسيما علي مصر وشعبها, كما أن التصالح في تقديري- مهين للكرامة المصرية, ومن ثم لا يجوز التسامح فيها. ولكن ليس هناك ما يمنع من التصالح مع المتهمين في جرائم نهب الأموال بشرط استعادة أموالنا المنهوبة, وتخفيف العقوبة وليس إسقاطها, وهو ما تنص عليه المادة رقم17 من قانون العقوبات التي تجيز للمحكمة استعمال الرأفة في مواد الجنايات مع المحكوم عليه إذا كانت هناك ظروف تقتضي العقاب, ومن ثم فإن رد الأموال المنهوبة يمكن اعتباره ظرفا قضائيا يجيز للمحكمة تخفيف العقوبة. والحقيقة, فإن الوصول إلي الرقم الحقيقي لهذه الأموال ليس مسألة سهلة, والمحكمة مسئولة عن تحديد حجم هذه الأموال, خاصة أن البنوك الأجنبية تتمتع بسرية الحسابات, فإذا ثبت لها أن هذه الأموال تم تحصيلها بالمخالفة للقانون, فإن هذه السرية يجب أن تنحسر, في الوقت نفسه تمثل الإجراءات القانونية فرصة قوية لاسترداد الأموال المنهوبة من خلال إجراء اتصالات بين وزارة الخارجية المصرية, والدول التي تم تهريب الأموال إليها, بحيث إذا أدين هؤلاء المتهمين بنهبها, فعليها في هذه الحالة أن تعيننا هذه الدول في استرداد الأموال, وفي كل الأحوال تحتاج عملية استرداد الأموال إلي نشاط, واتصالات مكثفة, وصبر, وإصرار! وفي كل الأحوال, فإن الاختلاس جريمة تصل العقوبة فيها علي السجن المؤبد أو المشدد حسب تقدير المحكمة, بينما تتراوح العقوبة في جرائم الاستيلاء علي المال العام( ويعني استيلاء موظف عام علي المال العام دون التقيد بأن تكون هذه الأموال تحت يده مباشرة) بين السجن لمدة3 سنوات وحتي15 عاما, ومن ثم فإن العقوبة التي ستصدر بحق المتهمين إذا تمت إدانتهم ستقررها المحكمة حسب تكييفها القانوني للواقعة. والحديث عن الأموال المنهوبة, يري الدكتور بهاء الدين أبو شقة محامي الجنايات الشهير أن التصالح في قضايا الاختلاس والاستيلاء علي المال العام هو أقصر الطرق لاستردادها, فمن المعروف قانونا أن عملية استرداد الأموال تستلزم صدور حكما قضائيا نهائيا بحق المتهم, ثم تبدأ مرحلة التفاوض مع الدول التي تم تهريب الأموال إليها, ولو أبدي المتهم استعداده لسداد الأموال التي استولي عليها فمن مصلحة الدولة والاقتصاد الوطني أن نسترد هذه المبالغ. سألناه: هل يجوز التصالح مع بعض رموز النظام السابق الذين أفقروا الشعب, ونهبوا ثرواته؟ - أبو شقة: لقد كنا أمام ثورة25 يناير, ولا شك أن الإجراءات الثورية تختلف عن الإجراءات, والظروف العادية, وكان يمكن اللجوء علي محاكمات استثنائية, لا تنفيذ قانون الإجراءات الجنائية, ولاشك أن الإجراءات العادية لن تمكنا من استرجاع الأموال المهربة في الخارج, خاصة أننا لم نمنح المتهمين ميزة أنه لو تم التصالح ورد الأموال فإن الإجراءات الجنائية سوف تتوقف.. لكن الإشكالية الكبري تكمن في أن البعض قام بإيداع أمواله في بنوك معظمها يقع في أوروبا, وهي لا تخضع لاتفاقية مكافحة الفساد, وهناك بنوك لا يمكن مساءلتها, ولا تعترف بأي قوانين, وفي هذه الحالة يجب أن يمنح صاحب الأموال تفويضا لتسلم هذه المبالغ, ولان البعض يخشي طرح فكرة التصالح حتي لا يثبت جريمة الاستيلاء علي المال العام علي نفسه, ومن ثم فإنه يجب إصدار نصوص قانونية محددة وملزمة تطمئن المتهم بفتح صفحة جديدة معه. والحال كذلك, فإن المستشار محروس عبدالهادي رئيس محكمة جنايات الأقصر يري أنه ليس هناك حظر علي المتهم في أن يطلب من المحكمة أن تمهله أجلا للتصالح مع الجهة التي استولي علي الأموال العامة منها, ومن ثم فإن تقديم طلب التصالح للمحكمة هو التماس من المحكمة علي سند من هذا التصالح- أن تستعمل معه الرأفة بمقتضي نص المادة رقم17 من قانون الإجراءات الجنائية, والنزول بالعقوبة إلي درجتين لتخفيفها عنه.. والتصالح- في هذه الحالة- لا يكون ملزما للمحكمة, بل جوازيا. ويشير الدكتور عبدالخالق فاروق الخبير الاقتصادي والاستراتيجي إلي أن مصر برغم أنها نهبت واستنزفت وعانت من كثرة الفساد والسرقات مازال الأمل قائما لأن قدرات مصر وإمكاناتها جيدة فلديها قدرات مالية واقتصادية كبيرة لو أمكن إدارتها بطريقة كفؤ بعيدا عن عمليات النهب والمصيبة الكثير ممن تولي أمورنا بعد الثورة يفتقد لوضوح الرؤية أو وجود رؤية استراتيجية كلية اقتصاديا وسياسيا مما أدي لاستمرار انتهاج نفس السياسات السابقة والأساليب القديمة, ومازال الكثير من بقايا النظام السابق موجودين ويعرقلون كل شئ.. فملف استرداد الأموال من الخارج لو أمكن إدارته بطريقة كفؤ سوف نحقق فيه تقدم كبير في عودة الأموال حيث ما يجري لإدارة هذا الملف الآن يعكس التخبط وعدم الوضوح والرؤية وغياب الادارة السياسية الحقيقية لإدارة معركة جادة من اجل استرداد أموال مصر المهربة, فالملف في الحقيقة يحتاج رؤية مختلفة حيث يمكن استعادة من10 إلي15 مليار دولار في عام واحد دون مساومات تتمثل في ايداعات مصرفية خارجية بأسماء أصحابها وهي واضحة, ثم يتم استكمال المعركة التي ستستمر5 سنوات علي الأقل إذا كانت لدينا الإرادة السياسية والمصدقية لاسترداد بقية الأموال الغاطسة في مشروعات مشتركة مع مشايخ في الخليج وفي أوعية استثمارية أوروبية وأمريكية من أسهم شركات وسندات وغيرها من مشروعات في أوروبا وإيطاليا. ولماذا لانتخذ الطرق الأسهل والأقرب فنحن في حاجة لتدفق مالي لمصر؟.. رد الدكتور عبدالخالق اجابة السؤال بسرعة وحدة قائلا: ليس هناك مجتمع يحترم نفسه يقبل فكرة عفا الله عما سلف خاصة إذا كان ما سلف هو نهب وسرق الأموال العامة وانتهاك حرمات المواطنين وتعذيبهم وبيع مقدرات البلد لأشخاص وجمعات في الداخل والخارج وكلها جرائم لابد من العقاب عليها بشدة.. وأخيرا هناك تواطؤ مكشوف لعدو الأمة العربية والإسلامية وهو إسرائيل لذلك لابد من تطبيق القواعد القانونية ليس لتصفية الماضي لكن تدشينا لسمات المستقبل حيث يعلم الجميع بوضوح أن القانون يعلو ولايعلي عليه ويطبق علي الكبير والصغير مما يؤدي لانتظام سير الحياه في المجتمع المصري وهو من الأهداف الكبري للثورة, ولا يجب النظر لتجربة جنوب افريقيا علي حد قوله فالوضع مختلف هناك فنقل السلطة للأفارقة تم بتدخل دولي مباشر لكن الشعب المصري خلص نفسه بنفسه من نظام شديد الفساد والنهب واستنزاف الثروات بالرشاوي والسرقة وكل الطرق غير المشروعة والبيض في جنوب إفريقيا ارتضوا تسليم السلطة لكن الثورة الشعبية المصرية انتزعتها من حاكم ظالم وحاشية فاسدة, والعملية تمت في جنوب افريقيا بمصارحة المجرمين, لكن عندنا المجرمون يتحدثون وكأنهم أبطال. ويؤكد الدكتور عبد الخالق فاروق أن فكرة استرداد الأموال المنهوبة بالمصالحة الترويج لها جريمة فكيف استرد أموال مقابل الصفح, وكان تعليقي: معك حق معني العفو أن كل لص في السجن يعيد أمواله ولانعاقبه, كرر كلمته مرة أخري الترويج لفكرة التصالح جريمة في حق الشعب المصري ولايمكن القبول بها لعدة أسباب الأول لم يشهد التاريخ الانساني أبد لصا ومعه مجموعة من اللصوص حكموا دولة ردوا الأموال طواعية, ثانيا القبول بهذه الفكرة يضرب في الصميم فكرة تدشين دولة القانون وتطبيقه بل وضرب المستقبل كله ثالثا صاحب السرقة والنهب لأموال مصر طوال عهد المخلوع انتهاك واسع لحقوق الانسان المصري عبر توظيف أجهزة القمع والشرطة لحماية عمليات النهب والسرقة التي كان يقوم بها الكبار والتنكيل بالمقابل للمعارضين لهذه الجرائم.