قمت مؤخراً بزيارة قصيرة إلى تونس الشقيقة قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة التى أجريت يوم السادس والعشرين من أكتوبر 2014. وقد تكونت لدىّ جملة من الانطباعات أو الملاحظات وأردت أن يشترك معى القارىء الكريم فى تأمل فحواها . الملاحظة الأولى، شيوع نوع من الشعور الجمعىّ لدى أبناء المجتمع التونسى بشىء من الحسرة، وربما الحزن العميق ، مستبطناً كان أو صريحاً، نتيجة إحساس قوىّ بالإحباط ، كوْن الثورة التونسية (ثورة 14 يناير / جانفى 2011) لم تحقق ما كان معقوداً عليها من آمال، من طرف الغالبية الشعبية التى قدمت الشهداء والتضحيات الجسام. إن هذا الشعور، فى ظنى، يحتل مساحة أوسع ويمتد إلى مسافات أبعد، داخل «السيكولوجيا الاجتماعية»، بالمقارنة مع الحالة فى مصر. ولا عجب، فإن الشعب التونسى قد بادر بإطلاق صيحة (الشعب يريد ..)، فى تلك الأيام الفاصلة من ديسمبر 2010، وأوائل بناير 2011، وتَمثَّل حقاً بقول شاعره أبى القاسم الشابى (إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... فلابد أن يستجيب القدر) ، وكانت البلاد التونسية مسرحاً أسطورياً لولادة المعجزة أول مرة : بانهيار منظومة الحكم التسلطى المتجذرة خلال أيام قلائل . فهل أن ما حسبناه رصيداً موجباً للتجربة التونسية فى السنوات الأخيرة، تحول إلى جانب السلب خلال الخبرة المعاشة؟ ربما كان الأمر كذلك، وتفسيره عندنا يكمن فيما أفرزته الانتخابات التى جرت فى خريف2011 لانتخاب الجمعية التأسيسية، بغرض وضع دستور جديد للبلاد، حيث بزغت منظومة انتقالية للحك، بواسطة ما يسمى بالترويكا أو «الثلاثى»، فتوزعت السلطات الرئيسية فى الدولة بين القوى الثلاث الأوسع تمثيلاً فى المجلس التأسيسي: ذهب منصب رئيس الجمهورية المؤقت إلى المنصف المرزوقى، رئيس حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية»، وذهب موقع رئيس المجلس التأسيسى إلى مصطفى بن جعفر رئيس حزب «التكتل الديمقراطى من اجل العمل والحريات»، بينما تولى حزب «حركة النهضة» الممثل لتيار الإسلام السياسى فى تونس بزعامة راشد الغنوشى اختيار رئيس الحكومة وغالبية المناصب الوزارية . ولقد تعرضت صيغة «الترويكا» لتغير عاصف، بعد انتهاء فترة حكم جماعة «الإخوان المسلمين» فى مصر فى الثلاثين من يونيو 2013، حيث انطلقت عاصفة مجتمعية عاتية، بدرجات مختلفة، تطالب بتغيير تلك الصيغة، مما أجبر الطرف الأقوى فى معادلة الترويكا وهو حزب حركة النهضة-على قبول «التخارج» من الحكومة المنفردة تقريبا، والقبول بصيغة توافقية، تسمح بتشكيل حكومة «التكنوقراط» مع رئيس للوزراء موال للحركة، وبقاء القطبين الأخيرين على حالهما، فى جانب الرئاسة والمجلس التأسيسى. ولقد شعرت فى أثناء زيارة تونس بعمق الإحساس بالإحباط العام، يضاعف منه عدم تحسن الأوضاع الاقتصادية، بل تردّيها، فى ظل ركود الدائرة الإنتاجية، نظراً لشيوع (الانفلات) فى جهاز الدولة وفى دولاب تسيير الأحوال الاقتصادية، وعدم لجْم تيار الفساد والإفساد، بل وتكاثر بعض خلاياه الجديدة (الوافدة)، وارتفاع معدل التضخم السعري، بالمقارنة مع تجميد الأجور خلال السنوات الثلاث الأخيرة.. كل ذلك أدى إلى تصاعد مؤشر نفقات المعيشة للأفراد والأسر، وتفاقم حالة الفقر المطلق لمن يعيشون بأقل من دينار تونسى واحد فى اليوم، كما قيل، وتدهور نسبى للوضع البيئى ومرفق النظافة. وبرغم الإحباط والقنوط، فقد استجمع التونسيون والتونسيات مدد العزيمة الصادق وتوجهوا إلى صناديق الاقتراع بكثافة نسبية ملحوظة، حتى بلغ معدل المشاركة فى الانتخابات التشريعية الأخيرة أكثر من 60%. وتشير النتائج إلى ما يمكن أن يسمى بالتصويت العقابى، حيث ذهبت الأكثرية النسبية لمقاعد مجلس النواب المنتظر إلى حزب «نداء تونس»، بينما حل حزب «حركة النهضة» فى المرتبة الثانية، لتتلوهما أحزاب عديدة من ألوان الطيف السياسى المختلفة ومن المعلوم أن الحزب الفائز بالأكثرية النسبية، ورئيسه الباجى قائد السيسى ، المرشح المحتمل أيضا فى السباق الرئاسى القريب ، لا يمثل تيار الثورة ، ثورة 14 جانفى ، من قريب أو بعيد ، وقد دغدغ مشاعر الجمهور المحبط من محصلة حكم »الترويكا« خاصة من حيث هيمنة (حركة النهضة) بصورة مباشرة أو غير مباشرة خلال أكثر من ثلاثة أعوام .. وربما كان ذلك الحزب الفائز أقرب فكريا ووجدانيا، بصفة عامة، إلى ما يسمى بأحزاب وفصائل «الحركة الدستورية» ذات الإرث البورقيبى، ودع عنك بقايا «التجمع الدستورى» للرئيس المخلوع. وإن كانت تحاول «حركة النهضة» أن تصور التنافس السياسى القائم باعتباره سباقا بين (الإسلاميين) و(العلمانيين)، وهو تصور متحيز ومبتور . والحق أن المسار السياسى التونسى قد اختلف عن المسار السياسى المصرى بعد يناير 2011 فى عدة نقاط مفصلية: أولاها أن حركة النهضة الممثلة لتيار الإسلام السياسى فى تونس قد تجنبت المصير البائس لنظيرتها (جماعة الإخوان المسلمين) فى مصر، بفضل حنكة زعيمها راشد الغنوشي، الذى آثر التخارج من الحكم المباشر، إذْ كان شاهد عيان، حتى اللحظة الأخيرة، على أوجه العوار الجوهرية فى المسيرة السياسية لتلك الجماعة بعد 2011. وحسب علمنا، فقد حاول ما استطاع أن يرأب الصدع باتصال مباشر قبيل 30 يونيو 2013 مع بعض قيادات الجماعة فى مصر ولكنه لم يفلح. ورغم ما أدى إليه خلع (الجماعة) من الحكم فى مصر وخاصة من حيث تفاقم موجة «العنف الدموى» الممارس من قبل بعض فصائل «الإسلام السياسى»، إلا أن انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفق دستور معدل جديد، قد بادر بوضع أساس يمكن البناء عليه لإقامة منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية مبشرة محتملة، وقد رمّم بالفعل بعض ما انهدم، وأعاد شيئا من مسحة التفاؤل على الوجود القلقة. أما النقطة الثانية فهى أن المجال السياسى التونسى لا يشهد حالة (التحسّس) القائمة فى مصر تجاه من نسميهم بالفلول من بقايا النظام المباركى المخلوع، ولم يسّن تشريع للعزل السياسى ، ولم يطبق العزل، ومارست الأحزاب والجماعات الممثلة للنظام المخلوع حرية العمل السياسى على أوسع نطاق، دون معارضة نافذة. والنقطة الثالثة هى أن من نسميهم (شباب الثورة) فى مصر بدوا أكثر (تحسّساً) بالمقارنة مع نظرائهم فى تونس، تجاه كل ما يمكن أن يعتبروه مساساً بإرث ثورة يناير، لدرجة جعلت (الحلم) لدى عدد منهم يتفوق فى بعض الأحيان على (العلم). وقد يؤدى ذلك إلى نوع من «الاعوجاج» فى خط السير السياسى لشباب الثورة، إن لم تفلح الفئة الأكثر علما من بينهم فى تدارك الأخطاء ودرء الأخطار، وذلك بمراجعة الذات، ومحاولة الالتقاء عند نقطة وسطى مع سائر فصائل التيار الوطنى التقدمى داخل منظومة الحكم وخارجه. وبرغم اختلاف المسار الراهن بين مصر وتونس، تبقى «الهموم المشتركة» قاسماً مشتركاً أعظم بين البلدين العربيين الشقيقين، اقتصاديا واجتماعيا وسياسا؛ ونتأكد من ثم أهم الضرورات: استعادة زخم ثورة يناير/جانفى، واستلهام روحها الحقيقية، من أجل إعادة بناء الوطن والدولة، والتنمية الشاملة، واستئناف مسيرة التوحيد العربى عبر الزمن. لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى