إذا أجريت مسحا شاملا للساحة السياسية فى بلدنا هذه الأيام، لن يسرك ما ستتوصل إليه من نتائج وحقائق، ففى ظل ما يتعرض له الوطن من اخطار ومصاعب معلوم ابعادها وتحدياتها، تجد أن الرؤية تكاد تكون منعدمة، ناهيك عن التخبط والتشوش وعدم القدرة على توحيد الصف، برغم أن الجميع يتحدث عن وجوب وحتمية الوحدة، حتى لا يسيطر الإخوان وأتباعهم على مجلس النواب القادم. فندب الحظ والحسرة يتفوق بكثير على العمل الجاد لسد الثغرات الممكن أن يتسرب من خلالها الإخوان وبقايا الحزب الوطني، وما يبعث على الألم والحزن أن كل فصيل سياسى يعتبر نفسه الخيار الآمن للبلاد، ويعرض نفسه على الجماهير الغفيرة من هذه الزاوية، ومكمن الخطر هنا أن النظرة الشخصية هى الغالبة وليست الوطنية. فالقوى الثورية المبعثرة يمينا وشمالا تؤكد أنها الأولى والاحق بالاستحواذ على مقاعد البرلمان، فهى من قادت وحفزت الناس على الثورة، وقدمت تضحيات لا ينكرها سوى جاحد أو كاره للثورة، لكنها لا تستطيع الانضواء تحت مظلة تحالف يجمع شتاتها، ويعزى فشلها لسبين اساسيين: الأول أن كوادرها تريد الاستئثار بالزعامة على حساب الآخرين، فضلا عن الخلافات الناشبة بينها، والتشكيك فيما قام به كل طرف إبان ثورتى الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو. السبب الثانى أن بعض هذه القوى الثورية تساورها الشكوك حول ما جرى فى 30 يونيو، وترفض تماما المشاركة فى تنفيذ خريطة الطريق، بل وتسعى أحيانا لعرقلتها ووقف تقدمها، لأنها وبحكم جمودها الفكرى ترى فيما جرى انقلابا، وتلمس هذا بوضوح لدى تيار يتسم بالتشدد والتطرف السياسى كالشيوعيين، والاشتراكيين الثوريين وغيرهم. فتلك القوى المتنافرة والمسماة الثورية تقبل الانخراط فى معارك هامشية ليس هذا وقتها المناسب ، بدلا من تقريب وجهات نظرها والمحافظة على زخم التغيير الذى يعد المطلب الحيوى للذين شاركوا فى ثورتين خلال أقل من أربع سنوات. وبالنسبة للأحزاب التقليدية القديمة كالوفد والتجمع فإنها أيضا تستغل حالة السيولة والفوضى السياسية وتتقدم الصفوف باعتبارها الخيار الآمن، وتوظف فى هذا السياق تاريخها النضالى فى عهود سالفة، وأنها الأكثر رشدا ونضجا لدى مقارنتها بالكيانات الشابة عديمة الخبرة التى ظهرت على مسرح الأحداث بعد 25 يناير، غير أن هذه الأحزاب تتناسى نقطة جوهرية تتمثل فى أنها لم تنجح بعد فى تغيير جلدها ودورتها الدموية وقدرتها على التواصل مع الناس والوصول إليهم أينما كانوا والتأثير عليهم، وادراك هذه الحقيقة جعلها تنخرط فى محاولات ومغامرات تشكيل تحالفات حزبية لخوض الانتخابات البرلمانية انطلاقا من أنها الأجدر بقيادتها وتسيير شئونها، وهو ما أدى لفشل وانهيار المفاوضات والمشاورات الدائرة بهذا الخصوص. بل إن طبقة الطفيلين والمتسلقين وتجار الثورات طرحوا أنفسهم أيضا كخيار آمن لمصر فى المرحلة القادمة، ولم لا وهم يرون كل من هب ودب يبرز وينتشر اعلاميا ويُقدم بصفته ثوريا اصيلا، فظهر عتاة الحزب الوطني، خصوصا فى الريف ليؤكدوا أن المصريين لم يكونوا على صواب حينما اسقطوا نظام حسنى مبارك، وأن الله غفور حليم، وأن التوبة النصوح مطلوبة، وأنهم على اتم استعداد لقيادة السفينة لبر الأمان. ولم يتخلف التيار الإسلامى عن الركب، فمكوناته تؤكد خاصة السلفيين أنهم الخيار الآمن بعد التخلص من الإخوان، وأن وجودهم يشكل ضرورة ملحة لمنع الجماعة الإرهابية من العودة والتسلل للعمل السياسي، ويحذرون طوال الوقت من أن استبعادهم أو التضييق عليهم سيكون كارثة للوطن، وسيفتح الأبواب للإخوان وسيزداد التطرف وفكر التكفير وكأنهم لا يتحملون مسئولية عظمى فى انتشار الفكر التكفيرى ، احد القيادات السلفية صرح بعد اعلان نتائج الانتخابات التونسية الأخيرة بأن العلمانيين فى تونس فازوا لغياب السلفيين المعتدلين من شكالة حزب النور. حزب النور الذى ينفى أنه حزب دينى لدينا 11 حزبا دينيا فى مخالفة صريحة لنصوص الدستور الذى يحظر قيام أحزاب على أساس دينى طلب فتوى من اثنين من مشايخ السلفيين لترشيح سيدات وأقباط على قائمته الانتخابية، فهل الحزب بصدد عمل دينى أم سياسي؟ ثم إن الشيخين اللذين استصدرا منهما الفتوى كانا من الواقفين على منصة الإخوان حينما حاولوا الاعتصام أمام مسجد مصطفى محمود بعد فض رابعة العدوية والنهضة، وقال احدهما نصا :«إن دمه ليس أغلى من دماء من سقطوا فى رابعة والنهضة». إن الخيار الآمن الحقيقى لبلادنا ينبع من أمرين: أولهما أن تلتف القلوب والعقول حول هدف وحيد هو العبور بمصرنا من عثرتها الراهنة، عبر وجود تحالف وطنى تنضوى تحته كل الأطياف السياسية، واختيار برلمان يمثل جموع المصريين الطامحين للاستقرار والأمن، وثانيهما أن تكون الأرضية الحاضنة والجامعة هى الوطنية، فلا مجال للتقسيمات الحزبية والدينية، فالمصريون فى كفة واحدة ومصيرهم مشترك، فهل يعى ويفهم كل من يتصارع على الجاه والسلطة ذلك؟ لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي