رغم أنها قدمت عملا وحيدا إلا أن أثيوبيا بفيلمها هذا استحقت ثناء جمهور مهرجان أنطاليا السينمائي في دورته الواحدة والخمسين والتي أسدلت فعالياته مؤخرا ، ونالت مدحا مستحقا من نقاد الفن السابع ، لشريطها الأخاذ والموجع في ذات الوقت ، أنه Difret أو جسارة كما ترجمته الميديا التركية ، والذي اخرجه وكتبه « زيراسيناي برهانة ميهري « ويكشف كم هي الهوة السحيقة التي تفصل مجتمع الحداثة والقانون وبين تلك التلال من الأعراف والتقاليد ، وفيها تنال المرأة الكائن الاضعف في المنظومة القبلية كل أشكال الهوان والأدهي أنه لا يجوز لها أن تشكو ، وفي اللحظة التي تقرر أخذ رد الفعل دفاعا عن نفسها تتحالف ضدها قوى القهر الذكورية مدعومة بقطاعات من أجهزة الأمن وجزء لا بأس به من النخبة. وهكذا تجد بطلة النص السينمائي هيروت ( أدت دورها تايزيتا هاجيرا ) ذات الرابعة عشرة ربيعا نفسها في أتون نار لا ترحم رغم أنها اختطفت وهي عائدة من مدرستها البدائية ثم اغتصبت بعنف ولأنها تريد العودة إلى عائلتها وأمها ، تتمكن من سلاح مغتصبها وتحاول الهرب وعندما يمنعها تطلق الرصاص عليه فترديه صريعا ، فماذا كان عساها أن تفعل سوى الذي فعلته. فمن يدافع عنها ؟ ليس هناك سوى تلك المحامية ميزيا إشنافي ( ميرون جاتينت ) ، وهي بالمناسبة منبوذة من أقران لها في المهنة ، كونها آلت على نفسها أن تكون نصيرة لبنات وطنها ، ولم يكن الأمر سهلا لكسر التابو خاصة مع تراث متجذر كان وأد صرخات النساء سمته وسبقائه في ذات الوقت ، صحيح تنجح في النهاية ، لكن الفتاة التي نالت البراءة لم تعد هي نفسها ، وكان عليها مجبرة لتنجو من إنتقام محتمل ان ترحل عن قريتها البسيطة التي عشقتها لتذوب في العاصمة لكنها لا تنس جرحها الغائر. من قهر الجنوب الفقير البائيس إلى آخر وإن أختلفت نفاصيله بطبيعة الحال ، وثمة فارق جوهري مهم ، وهو أن هذا الأخير يقع بالغرب الأوروبي المتخم بالثراء ، أي في جنة عدن كما يتصورها من هم سواء القابعون وراء الصحراء في أفريقيا السوداء أو أقرانهم بالقارة اللاتينية ، والذي قال عنها المخرج الفرنسي اليوناني الاصل ذائع الصيت ، كوستا جافراس في شريط له عام 2009 بعنوان عدن غربا ، أنه لا مكان فيها سوى لناسها ، الغرابة وهذا هو الادهي أنها لم تعد كذلك على ابنائها ، وهنا يأتي فحوى الفيلم البلجيكي الفرنسي الإيطالي المشترك ، يومين وليلة واحدة ، من إخراج وتاليف الأخوين الفرنسيين لوك جاردينه وجان بيير جاردينه. ويالها من مفارقة أن تدور الاحداث وهي حول معاناة الطبقة العاملة ، في بلجيكا ، التي تحتضن على أرضها اكبر تجمع أقتصادي في العالم أنه الأتحاد الاوروبي ، فضلا علي إنها مقر لحلف الاطلنطي ، وكانه يعيد بشكل أو بآخر الفيلم الامريكي « نوراما راي « والذي اخرجه مارتين رايت عام 1979 عن توحش الرسمالية الأمريكية ، فالمعاناة تبدو ذاتها بين النص القديم وبطلته « سالي فيلد « والحالي حيث محوره « ماريون كوتيار » حاملة الأوسكار، عن تجسيدها للمطربة الراحلة «إديث بياف » فطوال الخمسة وتسعين دقيقة ، يعيش المتلقي مع إمرأة مكافحة تحاول مساعدة زوجها، مشكلتها إنها اخذت إجازة لما تعانيه من انهيار عضبي تحت ضغط الحياة ، لتستقيظ صباحا على نبأ بقرب إعفائها من وظيفتها ، وتكشف صفقة الاستغناء وتتمثل في قيام القائمين على العمل بإغراء زملائها بمنحهم 1000 يورو مكافأة إستثنائية شريطة موافقتهم على استبعاد زميلتهم فما كان منها أن تنتهز عطلة نهاية الأسبوع ، لتقنع رفقائها العشر العاملين بالمصنع ، برفض المكافأة لكي تبقي معهم ، وكم كان الأمر عسيرا ومحرجا لها ولزملائها ، فكل واحد منهم كان في أمس الحاجة لهذا المبلغ البسيط ومن ثم ، وهنا تبرز براعة صناع الفيلم في تجسيد الصراع النفسي الذي يعتمل داخلهم جميعا بين الحفاظ على الزمالة والحق في العمل ، والحاجة الملحة للمال لسد جزء من ضغوط المعيشة ، ومثل نورما راي لم يدع الشريط لثورة ماركسية أو إشتراكية وانما يطرح رؤية إصلاحية تنشد العدل والحد من تغول رأس المال. وفي عودة لتلمس خطي الراحلين الكبار ، أمثال هيتشكوك ، قدمت المجر لعشاق المهرجان تحفة سينمائية بالغة الروعة لتزواج مفرداتها بين مشاهد طغي عليها الدم واعطت إنطباع بأننا أمام عمل من أعمال الرعب ، وتلك اللغة الموسيقية التي لم تكن فقط خلفية للأحداث بل هي جزء لا يتجزأ من البناء الدرامي هذا هو الإله الأبيض لمخرجه كورنيال موندريكزو والي نال احد جوائز الرفيعة بمهرجان كان العام الماضي. الفيلم يبدأ مع مشهد سيكون هو ذاته خاتمه لفتاة تقود دراجتها في شوارع مهجورة بالعاصمة بودابست ، تطاردها مجموعة هائلة من الكلاب الضالة ، سندرك أنهم سيطروا بالكامل على المدينة بأبنيتها ذات الطرز الباروكية الفخمة وكاننا أمام طيور الفريد هتشتكوك والذي إنتج قبل نصف قرن ، الإختلاف هو أن الكلاب تسيدت المشهد بعد أن تخلصت من الأشرار الذين حولوهم إلى حيوانات شرشة قتلة مصاصي دماء ، نعم هي فنتازيا جنون الكلاب ، ولكنها على المستوى الدلالي حملت في طياتها صور تنشد الرحمة والرضا ، واعادت الحياة من جديد لعلاقات إنسانية عصفت بها الانانية وحب التملك ولم تغب الموسيقي التي بدت طوق نجاة من توحش يصدره البشر للحيوانات وليس العكس.