ثانوية عامة أم بكالوريا؟ تلك هى المشكلة وما عدا ذلك من قضايا وتحديات وأولويات التعليم مجرد تفصيلات. يبدو أن وزارة التربية والتعليم قد اكتشفت فجأة أن سبب تدهورنا التعليمى يكمن فى تسمية شهادة الثانوية العامة، وأن تغيير هذه التسمية إلى شهادة «البكالوريا» سيحقق التطوير المنشود لنظامنا التعليمي. يعلن السيد وزير التربية والتعليم فى حواره المنشور بالأهرام فى 9 من أكتوبر الجارى عن بحث عودة تسمية البكالوريا قائلاً «البكالوريا المصرية سوف تُدرس على مدار السنوات الثلاث للمرحلة الثانوية». هكذا إذن يعتقد البعض أن مشكلة التعليم فى مصر هى فى تسمية شهادة الثانوية العامة ليثبت بذلك أنه ابن بار لثقافة عربية طالما كانت تُعلى الشكل على المضمون، والأسماء على المسميات، والمظهر على الجوهر. ربما كان القصد من استعادة تسمية البكالوريا هو إثارة أشواق المصريين إلى الأيام الخوالي، تماماً مثلما تعاطفوا مع مسلسل الملك فاروق منذ عدة سنوات ومثلما يحنون إلى أفلام الأبيض والأسود. لكن هل غاب عن بال من أطلق هذه الفكرة أنه فى ظل نظام البكالوريا القديم كان الطلاب يلتحقون بكلية الطب مثلاً بجموع درجات قد لا يتجاوز 80%؟ فهل تعنى تسمية البكالوريا أن تأخذ وزارة التربية والتعليم بالمعايير العلمية المنضبطة لتقييم الطلاب التى كانت سائدة آنذاك أم أن الوزارة ستأخذ بالتسمية الجديدة مع الإبقاء على معايير التقييم الهزلى العابث التى تصل بمجاميع الثانوية العامة الى 100% وهى ظاهرة تتأكد عاماً بعد عام بدون أن تثير خجلنا العلمي، الشيء الوحيد الذى أثارته هو سخرية العالم منا. جيدٌ أن يبحث السيد الوزير عن التسمية الأفضل لشهادة الثانوية العامة لكن المُلح أن يقول لنا ماذا نفعل فى مواجهة أكبر جريمة تعليمية منظمة فى تاريخ التعليم فى مصر وهى ظاهرة الدروس الخصوصية. لقد أعلن السيد الوزير منذ شهور أنه قد تم حظر الدروس الخصوصية وأنه لن يُسمح إلا بنظام دروس التقوية داخل المدارس وتحت إشرافها.. يومها صفقنا للوزير وآزرناه ثم سرعان ما اكتشفنا أن الدروس الخصوصية ما زالت مستمرة جهاراً نهاراً فى بر مصر . تأكد اكتشافنا أن الدروس الخصوصية قد أصبحت «مدرسة موازية» بكل معنى الكلمة وتحت بصر الجميع وأولهم وزارة التربية والتعليم. إن الوزارة التربوية العتيدة هى أدرى جهة فى مصر بجوانب وخفايا ملف الدروس الخصوصية فكيف غاب عن فطنتها وخبرتها أن البكالوريا المقترحة التى سوف تُدرَّس على مدى ثلاث سنوات ستؤدى لا محالة إلى استشراء وتفاقم ظاهرة الدروس الخصوصية وخلق المزيد من الطلب عليها. جيدٌ أن يعيد السيد الوزير اكتشاف تسمية البكالوريا، لكن المُلح هو معالجة ظاهرة تعليمية غريبة تستعصى على الفهم والتفسير، وهى ظاهرة إنفاق نحو مليارى جنيه مصرى سنوياً لطباعة كتب مدرسية لا يعيرها تلاميذنا أدنى اهتمام نتيجة اعتمادهم الكلى على الكتب الخارجية الخاصة ذات الأسلوب المتطور فى المعالجة والمنهجية والإخراج والطباعة، وربما كذلك نتيجة اعتمادهم على مذكرات الدروس الخاصة التى يكتبها مدرسون ينتمون إلى نفس الوزارة التى تنفق المليارات على كتب لا يقرأها أحد (!) لم تبذل الوزارة جهداً لمعالجة مثل هذه الظاهرة الغريبة مثل الجهد الذى يبدو انها تبذله الآن لاستعادة تسمية البكالوريا. إن هذا الهدر المالى الضخم والمتواصل فى وقت تدعو فيه الدولة على أعلى مستوياتها إلى ضرورة ترشيد الإنفاق لا يثير فقط شبهة جريمة الإضرار بالمال العام بل يكشف أيضاً عن خيال فقير وهمة غائبة. هناك أفكار وبدائل يمكن الأخذ بها للقضاء على الازدواجية وهذا الإهدار المالي، ومن المؤكد أن خبراء وزارة التربية والتعليم يعرفون بأكثر مما نعرف ما هى هذه الأفكار والبدائل. كل المطلوب هو إرادة الفعل وعدم الخوف من تبعات الاصلاح. جيدٌ أن يعيد السيد الوزير تسمية البكالوريا لكن المُلح اليوم هو البحث عن تطوير التعليم الفنى قبل الجامعي. هذه أولوية أولويات تطوير نظام التعليم فى مصر. ومرة أخرى أقول من المؤكد أن وزارتنا العتيدة لديها كل النظم والتجارب الناجحة للتعليم الفنى فى العالم وبصفة خاصة النظام الألمانى . إن التعليم الفنى ليس فقط هو الضلع الغائب فى مشروع تحديث نظام التعليم المصرى بل هو أيضاً الضلع الغائب فى مشروع التنمية وحركة التصنيع والقضاء على البطالة. جيدٌ ان يعيد السيد الوزير تسمية البكالوريا لكن المُلح بل الأكثر إلحاحاً هو تطوير نظام التحاق الطلاب بالتعليم الجامعي، ومعالجة الخلل الحاصل فى الزيادة الهائلة لعدد طلاب شعبة الآداب والإنسانيات مقارنة بعددهم فى شعبة العلوم سواء على مستوى المرحلة الثانوية ام على مستوى التعليم الجامعي. مطلوب منا أن نتذكر أن نظام مكتب التنسيق المعمول به حالياً لتوزيع الطلاب على التخصصات الجامعية اصبح نظاماً مترهلاً وبليداً لا تأخذ به دول العالم المتقدم. فلماذا نحمل كل هذا الخوف وربما الكراهية من الإقدام على التطوير؟ السؤال المشترك فى كل ماسبق هو لِماذا نترك المُلح لننشغل بالأقل إلحاحاً؟ لماذا الحديث الآن عن البكالوريا وإهمال الأولويات الأخرى؟ هل يبدو للبعض أن «روشتة» المسكنات وعمليات التجميل هى أكثر أمناً وأماناً من «روشتة» الإصلاح الجذرى وتبعاته؟ هذا تفكير أنانى وغير شجاع لأن رئيس الجمهورية نفسه اقدم على اتخاذ قرارات وإصلاحات اقتصادية جريئة فى وقت صعب دون خوف من تبعاتها على شعبيته. فلماذا لا يفعل الوزير مثلاً ما يفعله الرئيس؟ .............................. يقول الشاعر الراحل أمل دنقل .... يا دَقّة الساعات/ هل فاتنا ما فات؟/ ونحن ما زلنا اشباحَ أمنيّات/ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم