تبدو كلمة كومبارس كما لو كانت من صميم اللغة العربية ، فهى كلمة تتردد كثيرا دون أى سؤال عن أصلها الذى هو كلمة (كومبارسا) باللغة الايطالية ومعناها الحرفى هو ممثل زائد لا توجد أهمية له فى الفيلم السينمائى أو العرض المسرحى أكثر من وجوده بصورة ثانوية لتأكيد ما نشاهده أو خلق الجو العام للعرض الفنى .. ولان الكلمة لابديل لها فى اللغة العربية بل وهى فى حد ذاتها مذكر ومؤنث وجمع ومفرد فى نفس الوقت ، وكأنه قد قدر لهؤلاء الاشخاص ألا يتم تعريفهم لغويا على اى نحو كان ، فهذه الكلمة تستخدم عادة لوصف حالة أو على الأصح وضعية لفئة البشر من العاملين فى مجالات الفنون المرئية، وهى ايضا تعبير ما لبث ان تسلل الى جميع مناحى الحياة لوصف نوعية من البشر هم على الاغلب من المهمشين فى مختلف المجالات الفنية والوظيفية والمهنية والاجتماعية. وهى نوعية تدعو للتأمل اذ إن الغالبية العظمى منهم تتطلع الى ان تحتل ادوارا رئيسية ، وهو امر نادر الحدوث ولكن يحدث على اية حال عبر تاريخ السينما المصرية المتجاوز المائة عام ، ولعل أشهر قصص الصعود هذه قصة عمل «هنومة خليل» التى اصبحت فنانتنا الكبيرة مديحة يسرى التى لفتت عيناها العربيتان السوداوان نظر المخرج الكبير محمد كريم اثناء تصويره لأغنية محمد عبدالوهاب «بلاش تبوسنى فى عينيه» ، فاظهر عينيها فى لقطة كبيرة لمدة خمس ثوان فى فيلم «ممنوع الحب» عام 1942 لتقفز فى نفس العام الى دور البطولة فى فيلم «احلام الشباب» من اخراج كمال سليم ، واذا كان من السهل التعرف على الفنانة هند رستم وهى تمتطى الحصان مع مجموعة من الفتيات خلف ليلى مراد وهى تغنى «اتمخطرى واتمايلى ياخيل» فى فيلم «غزل البنات» من اخراج انور وجدى عام 1949 ، فانه يستحيل التعرف على رفعت سليمان على الجمال الشهير برأفت الهجان الذى كان يعمل «كومبارس» راقصا وسط المجاميع الراقصة فى السينما المصرية بحكم مخالطته للجاليات الأجنبية وتشبهه بهم ، وهو الأمر الذى ادى لاختياره وتجنيده من قبل المخابرات المصرية للعمل كجاسوس مصرى فى اسرائيل. واذا ما ظل الكومبارس فى مكانه دون ان يتمكن من تجاوز وضعيته، فانه على الاغلب مايخلق لنفسه دورا ما حتى لو كان دورا وهميا لا وجود له فى الواقع وبحكم عملى كمخرج سينمائى فلقد لاحظت هذه الظاهرة التى تحمل فى الواقع نوعا من العزاء الشخصى لهذه الفئة من البشر، فعقب الانتهاء من تصوير اول افلامى الروائية الطويلة «ثلاثة على الطريق» عام 1992، وكان يتضمن أعدادا كبيرة من الكومبارس الصامت فى مشاهد المجاميع ، نشرت احدى المجلات الفنية تحقيقا صحفيا عن الكومبارس ، وكان منصبا على هو فيلمى، وأخذت اقرأ احاديثهم .... كان احدهم يتحدث عن قيامه بدور الشرس فى الفيلم ، وآخر يتحدث عن قيامه بدور الشيخ التقى، وواحدة تتحدث عن قيامها بدور المرأة اللعوب، واخرى تتحدث عن قيامها بدور أم العيال... الى آخر هذه الأدوار غير الموجودة بالفيلم أصلا.. وأثارت هذه الأحاديث انتباهى فجلست الى طاولة (المونتاج) أحاول التعرف على هذه الأدوار من بين مجاميع الكومبارس الصامت الذى تجاوز عدده فى مشاهد المولد على نحو خاص أكثر من ألف شخص... وتدريجيا بدأت فى تبين الصورة ، احدهم يمشى عابسا متجهما وقد وضع عصا صغيرة تحت ابطه ، اذن فهذا هو الشرس ، واخرى تسير وسط المجاميع وهى تتمايل وتتثنى فى مشيتها اذن فهذه هى المرأة اللعوب ، وشخص ذو لحيه يسير متباطئا وقد امسك بمسبحة، اذن فهذا هو الشيخ التقى ، وامرأة تسير وبصحبتها ثلاثة اطفال وهى بالطبع وكما لا يخفى على القارئ ام العيال ... وهكذا اكتشفت ان كلا منهم قد اختار له دورا بينه وبين نفسه كى يقدم ذاته للآخرين عندما يسأل فى اسرته من اطفاله او زوجته أو أقربائه عن الدور الذى يقوم به ، او عندما يجلس الى المقهى متباهيا بعمله فى السينما ، وكذلك النساء من بين مجاميع الكومبارس.. انهم ببساطة يبحثون عن تواجد ما، وعن هوية لهم فى عالم يضعهم على الهامش ويعتبرهم شيئا زائدا ليس له ضرورة سوى اضفاء جو ما حسب الكلمة الايطالية المأخوذ عنها التعبير العربي. وأتخيل احيانا ما الذى كان سيحدث لو كنت قد صورت نفس الفيلم هذه الايام؟ فعلى الاغلب كان عدد من الكومبارس سيسير بحماسة رافعى الرؤوس ويتحدثون عن قيامهم بدور الناشط السياسى، وبقدر ماتخلق هذه الحالة نوعاً من التعاطف مع الكومبارس فى السينما، بقدر ماتثير الفزع فى التعامل معها فى السياسة، فما قد يقبل فى الاعمال الفنية المرئية لخلق الجو العام للعرض الفني، لايصلح اطلاقا لخلق مناخ سياسي، وماقد يصلح فى عالم التمثيل لايصلح اطلاقا على ارض الواقع.. لقد أدت ثورة 25 يناير عام 2011 الى ظهور مناخ سياسى جديد فى مصر، فالشعب الذى انتقض ضد الفساد والاستبداد ودفع ثمناً فادحاً من دماء الشهداء من ابنائه، تمكن من الاطاحة برأس النظام، ولكنه لم يطح بالنظام نفسه الذى مازالت كوادره المتمركزة فيما يسمى بالدولة العميقة وفى اجهزة اعلام تحاول ان تبث حالة من العدمية الوطنية ومحاولة اظهار ان هذه الثورة العظيمة ليست سوى مؤامرة اجنبية تم تنفيذها وهى محاولة فاشلة بالطبع اذ ان الوعى العام الذى خلقته الثورة يمهد لاستمرار حلقاتها رغم كل المعوقات التى يضعها اعداؤها امامها على كافة المستويات.. قد لايكون النظام تغير ولكن الشعب نفسه تغير، ولم يعد نفس الشعب المستسلم الملهى (بكسر الهاء) بالبحث عن لقمة العيش، وربط فى شعاراته ومطالبه ولأول مرة فى تاريخ مصر بين العيش والحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية كحقوق اصيلة مكتسبة لم يعد على استعداد للتنازل عنها على اى نحو كان، ولكن مايبدو كأزمة حقيقية تواجه ثورة 25 يناير هو افتقادها للكادر الاساسى سواء للقيادة او حتى ايجاد نوع من التوافق الأيدولوجى بين الفصائل السياسية المختلفة المشاركة فى الثورة كنتيجة لتجسيد الحياة السياسية فى مصر ما يقرب من ستين عاماً مما اتاح الفرصة للفصيل السياسى المنظم الوحيد وهو«الإخوان المسلمين» للقفز على السلطة، وفى تقديرى فإن الكومبارس السياسى الذى تواجد على ساحة العمل السياسى هو من ساعد الإخوان المسلمين فى خلق الجو العام الذى اتاح لهم ذلك. لقد شغل الكومبارس المتنازع على ادوار وهمية تافهة على الساحة السياسية، واخذوا يتقافزون برشاقة بين قنوات تليفزيونية عامة وخاصة ليتحدثوا عن ادوار وهمية قاموا بها مرددين سيناريوهات رديئة من وحى خيالهم ومصالحهم، وحول وتحت تعبير «ناشط سياسي» التف العشرات بل والمئات من الكومبارس وتحولوا الى منظرين ينظرون لاى شئ وكل شئ دون ان يكونوا مؤهلين فكرياً وسياسياً لذلك فى الوقت الذى عاد فيه الكثير من الثوار الحقيقيين الى منازلهم ، وجلسوا أمام شاشات التليفزيون يشاهدون هؤلاء الكومبارس وهم يدلون بأحاديث وتصريحات تليفزيونية مدعية، دون ان يفكر عدد من مقدمى البرامج الحوارية فى سؤال أى ً منهم عن عمله فى الحياة وتاريخه السياسى ودوره فيما جرى ، وكأن الثورة مجرد شعارات حماسية تطلق فى الهواء وليست فعلاً حيا واعيا اكبر بكثير عن ان يكون مجرد (جو عام) يخلقه ابطال وهميون اخترعوا أدواراً لهم وسط المجاميع كما هو الحال فى عالم السينما الخيالي.. لقد أدى هذا الوضع الملتبس الذى تم تغذيته اعلامياً الى خلق حالة من الوهم واخفى صورة ضبابية على المشهد السياسي، واخترع قضايا بديلة دون وجود ايديولوجيات واضحة تتآلف او حتى تتناحر على ساحة العمل السياسي، ووصلت هذه المهزلة الى اقصى درجاتها بتأييد جماعة الاخوان المسلمين بحجة بليدة تليق بكومبارس محدود الأفق والموهبة يخترع دوراً ما له، وهو ان مرشح الاخوان لرئاسة الجمهورية محمد مرسى سينفذ طلباتهم واذا لم ينفذها فهم قادرون على الاطاحة به .. الى آخر هذه الخزعبلات التى ساقوها فى معرض تأييدهم له.. حتى اذا ما استولى «الإخوان المسلمين» على الحكم تلاشى هؤلاء الكومبارس تماماً كما لو انهم لم يوجدوا قط، مخلفين وراءهم نوعاً من الذكريات المريرة عن ادوار وهمية اخترعها كل لنفسه، وعقب ثورة 30 يونيه عام 2013 ومع نهاية حكم محمد مرسى ، هرع عدد كبير من هؤلاء الكومبارس ليواصلوا عملهم فى دول راعية لحكم جماعة الاخوان المسلمين وهم يتشدقون بنفس الادعاءات التى طالما صدعوا رؤوسنا بها، دون ان ننكر بالطبع انه كما فى السينما يحدث ايضا وبصورة نادرة ان يصبح بعض هؤلاء الكومبارس نجوماً ، وهو ماحدث بالفعل ولكن بشروط السينما الخيالية الاستعراضية وليس بشروط العمل السياسي. اذا لم تستوعب الشعوب اسباب الهزيمة والعوامل التى ادت اليها، فلن تتمكن من تجاوزها، وفى تقديرى فان لهم ماينبغى علينا القيام به هو ملء الحياة السياسية التى تم تجفيفها فى مصر، وهو امر لن يتم بين عشية وضحاها، وانما يقتضى ديمقراطية كاملة وشفافية تامة مع حرية تكوين الاحزاب السياسية واصدار الصحف والمجلات، والغاء كافة اشكال الرقابة على حرية الفكر والابداع، والعمل على تقوية منظمات المجتمع المدني، وان يتم ذلك على خلفية رفع مستوى التعليم العام والرعاية الصحية الى اقصى الدرجات الممكنة. يقول الشاعر الفرنسى الكبير المقاوم ضد الفاشية لويس اراجون فى قصيدته «سانتا اسبانيا» وحسب ترجمة شاعرنا الكبير عبد الوهاب البياتي: «ما الذى كنت اعلمه عن الهزيمة عندما يصبح وطنك حباً محرماً عندما يلزمك صوت الانبياء المزيفين كى تعيد الحياة للأمل الضائع.. ولعلنا فى فترة ما لم نكن فى حاجة الى الأنبياء المزيفين كى يعيدوا لنا الأمل الضائع فحسب، بل قمنا باختراعهم، حتى افقنا ذات صباح واكتشفنا انهم مجموعة من الكومبارس قاموا باختراع ادوار وهمية لهم من طيب الى شرس الى قبيح الى عميل ثم مالبثوا وان تلاشوا مع نهاية العرض الوهمى الذى اقيم على حساب الحقيقة.