دخلت العلاقات الألمانية الروسية مرحلة فتور غير مسبوقة منذ إعادة توحيد ألمانيا قبل نصف قرن تقريبا بعد أن قررت برلين تأجيل المشاورات الحكومية السنوية مع روسيا المعروفة باسم حوار بطرسبرج لأجل غير مسمى، بسبب الصراع الغربى مع روسيا حول أوكرانيا. وتأتى هذه الخطوة لتزيد من استياء الأوساط الاقتصادية والسياسية الألمانية من سياسة حكومة المستشارة انجيلا ميركل إزاء موسكو، التى يتهمها البعض هنا بالانبطاح الكامل لرغبة واشنطن فى عزل روسيا وإضعافها، رغم أن ذلك يتعارض مع المصالح الألمانية والأوروبية. ومؤخرا تسبب الشريك الأمريكى فى إحراج المستشارة الألمانية ووضعها فى موقف صعب أمام الرأى العام الألمانى، بعد ان أعلنت واشنطن بشكل صريح أن الاتحاد الأوروبى مجرد تابع لها تأمره فيطيع، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع روسيا وهو ما اعتبرته وسائل الإعلام الألمانية إهانة غير مسبوقة لبرلين. هذه الإهانة كما تصفها صحف هافنجتون بوست أو فيرتشفاتس ناخريشتن جاءت على لسان نائب الرئيس الأمريكى جو بايدن خلال كلمته أمام كلية كيندى للإدارة بجامعة هارفارد، عندما أعلن بوضوح ان اوروبا لم تكن ترغب فى فرض عقوبات اقتصادية على روسيا فى الخلاف حول أوكرانيا، وان إدارة الرئيس الأمريكى اوباما اجبرتها على تلك الخطوة وعلى تحمل الخسائر الاقتصادية الناجمة عن ذلك. وتنقل الصحف الألمانية عن البيت الأبيض قول بايدن « لقد وضعنا بوتين أمام خيار إما ان تحترم سيادة أوكرانيا أو تتحمل التبعات المتصاعدة لذلك.. والحقيقة هى ان الدول الأوروبية كانت ترفض العقوبات ولكنها وافقت بسبب دور امريكا القيادى وإصرار رئيس الولاياتالمتحدة على أن تتحرك اوروبا وان تتحمل الخسائر الاقتصادية من اجل ان يدفع الروس الثمن، كما ان اوباما اخذ يكرر لأوروبا بأن موقفها هذا يعتبر عارا. والنتيجة كانت هروبا مكثفا لرأس المال من روسيا وتجميد الاستثمارات الأجنبية المباشرة فيها وتراجع الروبل بشكل غير مسبوق أمام الدولار واصبح الاقتصاد الروسى على شفا الكساد» تصريحات بايدن تسببت فى انتقادات لاذعة لميركل لأنها اكدت انها ومعها رؤساء الدول والحكومات الأوروبية تصرفوا ضد رغبتهم أولا وضد مصالح شعوبهم الاقتصادية والسياسية ثانيا، فقط استجابة للإملاءات الأمريكية. كما أن إعلان نائب الرئيس الأمريكى ذلك علنا دليل على استهانة واشنطن التامة بمواقف الشركاء الأوروبيين ويؤكد ثالثا أن اوروبا لا تزال تدور فى فلك الولاياتالمتحدة ولا تملك قرارها السياسى رغم انف الطموحات الألمانية للعب دور أكثر تأثيرا على الساحة الدولية. وجاء رد الفعل الأوروبى على كلمة بايدن ليزيد من حالة الاستياء فى وسائل الإعلام الألمانية، فقد اكتفت مايا كوخيانشيك المتحدثة باسم كاثرين اشتون بتصريح قالت فيه ان الاتحاد الأوروبى اتخذ قراره بفرض عقوبات على روسيا باستقلالية وبشكل جماعى، وان دافعه لذلك كان الوضع الصعب فى اوكرانيا والدور الروسى فى ذلك. ما اثار بعض السياسيين الألمان ايضا خاصة فى صفوف المعارضة اليسارية هو ان بايدن حث الاتحاد الأوروبى فى كلمته على التوقيع سريعا على اتفاقية التجارة الحرة مع بلاده رغم إدراكه ان هناك تحفظات ألمانية لا تحصى عليها وان هناك مظاهرات مناهضة لها فى العواصم الأوروبية، ويحذر الخبراء من أن هذه الاتفاقية تسلب البرلمانات الأوروبية حقها فى حماية المستهلكين الأوروبيين من البضائع الأمريكية.. كما اثار الاستياء ايضا أن المستشارة ألقت بعد ذلك كلمة خلال احتفالات الوحدة الألمانية اسهبت فيها فى الإشادة بدور الولاياتالمتحدة فى إعادة توحيد بلادها ودعمها متجاهلة ان هذا الانجاز لم يكن ليتم دون موافقة موسكو أنذاك ودعمها ايضا! لقد جاءت كلمة بايدن لتزيد من الانتقادات للحكومة الألمانية خاصة من الاتحادات الاقتصادية الألمانية التى تصف استجابة برلين لضغوط واشنطن لفرض العقوبات وتصعيدها ضد موسكو فى قطاع الطاقة والمال والصناعات العسكرية بأنها خاطئة خاصة أن المانيا اكبر شريك تجارى لروسيا فى الاتحاد الأوروبى صدرت فى العام الماضى وحده ماقيمته نحو 36 مليارا إليها اى ثلث إجمالى الصادرات الأوروبية بخلاف اعتماد المانيا الرئيسى على إستيراد الغاز الروسي. وهو ما يؤكده ايكارد كورديس رئيس اللجنة الألمانية للعلاقات الاقتصادية فى شرق أوروبا ويقول أن مصالح نحو 200 شركة ألمانية لها استثمارات فى روسيا مهددة وكنا نأمل فى تأجيل العقوبات لاتاحة الفرصة لتعزيز وقف اطلاق النار فى اوكرانيا. وتوقع كورديس أن تنخفض صادرات ألمانيالروسيا بنسبة بين 20 و25٪ بسبب العقوبات مشيرا إلى ان ألمانيا تضر بنفسها بصورة متزايدة بدون أن تصل العقوبات إلى التأثير السياسى المنشود. كذلك ينتقد الخبراء السياسيون إستجابة الحكومة المانية للضغوط الامريكية، ويؤكد مثلا خبير الشئون السياسية بجامعة بوتسدام الدكتور فالتر شتوتسلة أن اوروبا أرتكبت خطأ فادحا عندما حاولت استبعاد روسيا من إستراتيجيتها الأمنية الجديدة مؤكدا أنه لا يمكن ضمان أمن أوروبا بدون روسيا ولا يمكن وضع نظام أمنى عالمى جديد بدون مشاركة روسيا كدولة من الدول الخمس صاحبة حق الفيتو فى مجلس الأمن، كما أن استمرار التبعية الأوروبية لواشنطن فى حملة عزل موسكو دوليا نرى نتائجها اليوم فى الشلل الذى اصاب مجلس الامن فيما يتعلق بمواجهة التحديات فى دول الشرق الأوسط، لذلك يطالب شتوتسله وآخرون برلين بالعودة فورا إلى مائدة الحوار مع روسيا ووضع المصالح الألمانية الأوروبية فى الاعتبار.