فوز الزميلين عبد الوكيل أبو القاسم وأحمد زغلول بعضوية الجمعية العمومية ل روز اليوسف    وزارة النقل تدرس إرسال مهندسين وفنيين للتدريب في الصين    جهاز التنمية الشاملة يوزيع 70 ماكينة حصاد قمح على قرى سوهاج والشرقية    جولة داخل مصنع الورق بمدينة قوص.. 120 ألف طن الطاقة الإنتاجية سنويا بنسبة 25% من السوق المحلي.. والتصدير للسودان وليبيا وسوريا بنحو 20%    عاجل - إصابة الملك سلمان بن عبدالعزيز بمرض رئوي.. الديوان الملكي يؤكد    فرنسا تستثير حفيظة حلفائها بدعوة روسيا لاحتفالات ذكرى إنزال نورماندي    ميدو بعد التتويج بالكونفدرالية: جمهور الزمالك هو بنزين النادي    نتائج مواجهات اليوم ببطولة الأمم الإفريقية للساق الواحدة    غدا.. أولى جلسات استئناف المتهم المتسبب في وفاة الفنان أشرف عبد الغفور على حكم حبسه    أخبار الفن اليوم، محامي أسرة فريد الأطرش: إعلان نانسي تشويه لأغنية "أنا وأنت وبس".. طلاق الإعلامية ريهام عياد    «ذاكرة الأمة».. دور كبير للمتاحف فى توثيق التراث الثقافى وتشجيع البحث العلمى    الصحة: طبيب الأسرة هو الركيزة الأساسية في نظام الرعاية الصحية الأولية    سلطنة عمان تتابع بقلق بالغ حادث مروحية الرئيس الإيراني ومستعدة لتقديم الدعم    رئيس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة: جرائم الاحتلال جعلت المجتمع الدولى يناهض إسرائيل    دموع التماسيح.. طليق المتهمة بتخدير طفلها ببورسعيد: "قالت لي أبوس ايدك سامحني"    بينها «الجوزاء» و«الميزان».. 5 أبراج محظوظة يوم الإثنين 19 مايو 2024    أتزوج أم أجعل أمى تحج؟.. وعالم بالأوقاف يجيب    طقس سيئ وارتفاع في درجات الحرارة.. بماذا دعا الرسول في الجو الحار؟    خبير تكنولوجى عن نسخة GPT4o: برامج الذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى إغلاق هوليود    مع ارتفاع درجات الحرارة.. نصائح للنوم في الطقس الحار بدون استعمال التكييف    الكشف على 1528 حالة في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    وزير الأوقاف: الخطاب الديني ليس بعيدًا عن قضايا المجتمع .. وخطب الجمعة تناولت التنمر وحقوق العمال    تحركات جديدة في ملف الإيجار القديم.. هل ينتهي القانون المثير للجدل؟    الجمعة القادم.. انطلاق الحدث الرياضي Fly over Madinaty للقفز بالمظلات    جدل واسع حول التقارير الإعلامية لتقييم اللياقة العقلية ل«بايدن وترامب»    متحور كورونا الجديد.. مستشار الرئيس يؤكد: لا مبرر للقلق    كيف هنأت مي عمر شقيقة زوجها ريم بعد زفافها ب48 ساعة؟ (صور)    اقرأ غدًا في «البوابة».. المأساة مستمرة.. نزوح 800 ألف فلسطينى من رفح    «النواب» يوافق على مشاركة القطاع الخاص فى تشغيل المنشآت الصحية العامة    داعية: القرآن أوضح الكثير من المعاملات ومنها في العلاقات الإنسانية وعمار المنازل    ليفاندوفسكى يقود هجوم برشلونة أمام رايو فاليكانو فى الدوري الإسباني    هل يستطيع أبو تريكة العودة لمصر بعد قرار النقض؟ عدلي حسين يجيب    ختام ملتقى الأقصر الدولي في دورته السابعة بمشاركة 20 فنانًا    مدير بطولة أفريقيا للساق الواحدة: مصر تقدم بطولة قوية ونستهدف تنظيم كأس العالم    السائق أوقع بهما.. حبس خادمتين بتهمة سرقة ذهب غادة عبد الرازق    رسائل المسرح للجمهور في عرض "حواديتنا" لفرقة قصر ثقافة العريش    بايرن ميونيخ يعلن رحيل الثنائي الإفريقي    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    افتتاح أولى دورات الحاسب الآلي للأطفال بمكتبة مصر العامة بدمنهور.. صور    نهائي الكونفدرالية.. توافد جماهيري على استاد القاهرة لمساندة الزمالك    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    حكم إعطاء غير المسلم من لحم الأضحية.. الإفتاء توضح    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    رئيس الإسماعيلي ل في الجول: أنهينا أزمة النبريص.. ومشاركته أمام بيراميدز بيد إيهاب جلال    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" في زيارة إلى مدينة العلمين الجديدة    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    «الرعاية الصحية»: طفرة غير مسبوقة في منظومة التأمين الطبي الشامل    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    عرض تجربة مصر في التطوير.. وزير التعليم يتوجه إلى لندن للمشاركة في المنتدى العالمي للتعليم 2024 -تفاصيل    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هارون هاشم رشيد .. شاعر الأرض وصاحب نشيد العودة : مصر وضعتني علي طريق الشعر والنضال
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 02 - 2012

دخل زنزانة القضية الفلسطينة مثل عصفور مهيض وهو لم يزل طفلا لايتجاوز التاسعة من عمره‏. ومن قلب مخيمات اللاجئين في غزة ظل يحلق مغردا لحنه الشجي الحزين المستمد موسيقاه من أنين الأرض وآلام النكبة ولوعة الغربة وانكسار لحظات النزوح والهجير حتي صارت قصائده الأولي أناشيد ثورية ملتهبة تفتح بوابات الأمل وتعبد جسورالعودة مرددا: عائدون.. عائدون.. إننا لعائدون.
هو فارس الشعر الفلسطيني القادم من مواطن الحزن المبطن بالأسي والحنين النابع من قلب حارة الزيتون- مسقط رأسه-, وهو الثائر الغض الذي استنشق غبار دوريات الإنجليز والترك والصهاينة فلم تزده إلا عشقا لتراب الوطن, وهو الذي جاب المدن والبلدات الفلسطينية طفلا وصبيا ليختزن القضية في ذاكرته الحية التي صهرت في بوتقتها وجوه البشر المكلومين بفعل عذابات بلفور, واغتصاب الصهاينة وصلف الإنجليز وخذلان الأتراك فغدت قصائد متناثرة ترسم ملامح أسطورة التحدي ورفض السلام وتميع القضية فوق منصات التفاوض والاستسلام.
إنه شاعر الأرض والنكبة والنازحين والذي لقب أيضا بشاعر القرار194 هارون هاشم رشيد الذي غاص في أعماق نفوس القادمين من مواطن رغد العيش في يافا
وحيفا وبئر السبع وجبل الكرمل عندما افترشو رصيف الحياة في مخيمات غزة مع بدايات عواصف التشريد, و مع الغرباء عنوان ديوانه الأول جسد حلم العودة لأرض الأشواك, ظل حاملا أوراقه ويمضي من مدينة إلي مدينة, ومن بلد إلي بلد رافضا أن يلقي بندقيته أومدفعه حتي تعود رايته خفاقة دائما ويعود كل النازحين مع الهناء والابتسام, في يومها فقط يحلو السلام ويكون شاعرنا في صف السلام.
في الحلقة الأولي من هذا الحوار الشيق نقلب صفحات حياة الشاعر الفلسطيني الكبير هارون هاشم رشيد, وندخل معه زنزانة القضية الفلسطينية كي نغوص في أعماق أجواء النكبة والغربة, ونعرج علي جسور العودة وصولا لبوابات السلام المزعوم فإلي التفاصيل..
نبدأ من حارة الزيتون حيث الطفولة والصبا, كيف أثرت النشأة الأولي في وجدانك الشعري وبناء الحس الوطني بداخلك, وكيف انسحب كل ذلك علي مسار حياتك العملية؟
بداية أحب أن أشير إلي أنني ولدت عام1927 م في قلب هذا الحي العتيق حارة الزيتون لعائلة تحب الشعر, كما أن أبي يرحمه الله ورث عن أبيه الذي كان مختارا( عمدة) مسئولية الحي, وبالتالي كان يوجد في بيتنا ديوان كبير(صالة استقبال في مدخل البيت) وكان من عادات هذا الديوان أن يأتي إليه في ليالي الشتاء شاعر الربابة ذلك الذي شدني صوته وأنغامه, حيث كان هذا الرجل يملك العديد من الحكايات الحلوة المصحوبة بالأنغام العذبة, فضلاعن الكلام الموزون والمقفي, وهو مالفت نظري منذ الصغر حتي بدأت أعشق هذا اللون من الشعر الذي كنت أسمعه عن بعد, متسللا بالقرب من الديوان الذي لايسمح لي بدخوله في وقت أن كنت طفلا, وعندما كبرت سمح لي والدي بالجلوس فترة قصيرة, لكن من كثرة ولعي وانشغالي بالربابة ومايقوله الشاعر من كلمات وألحان كنت أخرج من الديوان الكبير, وأجلس في ديوان أصغر مغطي بالقرب منه كي أغترف من هذا النبع الفني الشعبي الصافي غير مبال بالبرد القارس حتي أصبت بنزلة برد كادت تقضي علي من أجل هذا الشعر.
أما متي بدأت ينمو حسي بفلسطين كوطن وقضية, فكان ذلك مبكرا جدا, وانشغلت بها تحديدا عام1936 م في عمر ال9 سنوات, حيث قامت أكبر وأهم ثورة في تاريخ القضية الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني وضد الصهيونية آنذاك, وهذه الثورة شملت كل أنحاء فلسطين, وأعلن إضراب شامل وكان علي كل رجل أو شاب أن يحمل السلاح ليذهب إلي الجهاد, وبالتالي خلت حارة الزيتون من الناس الذين ذهبوا للقتال, وأغلقت المدارس, وكان كل مايشغلنا كأطفال هو اللعب في الشارع.
لكن اليوم الذي أورخ فيه تاريخ التزامي بالقضية والذي سجلته فيما بعد في قصيدة في ديواني الأول بعنوان قصة حدثت من أمس منذ عشرين عاما, وهي قصة حقيقية حدثت في يوم27 رمضان في تلك السنة(1936), حيث كان من عاداتنا في كل مساء أن نجلس في الساحة الموجودة في حارة الزيتون بالقرب من جامع الشمعة الذي يجاور بيتنا في انتظار أذان المغرب ونحن نلعب البلي وفي اللحظة التي ننصب فيها البلي في الملعب والشارع خال تماما من المارة فوجئنا بدورية بريطانية قوامها ثلاثة عساكر تقترب منا وظلوا بعض الوقت يراقبون ماذا نفعل, وفي لحظة خاطفة خرج من زقاق صغير ضيق ثلاثة من الملثمين واشتبكوا مع الدورية, سقط أحدهم فورا والثاني جرح وهرب, والثالث لم نعرف مصيره وسط حالة من الارتباك وهول الصدمة, وكانت المفارقة أني عرفت اثنين من هؤلاء الملثمين حيث كانا يسهران في الديوان وهما أصدقاء والدي خاصة أن غالبية رواد الديون كانوا يحكون ويضحكون معي بحكم أني كنت أجالسهم, كان أحدهما مسيحي قائد أحد الفصائل المقاتلة في معارك1936 م واسمه بطرس الصايغ, والثاني مسلم وهو مدحت لوحي, وظل الاثنين عالقين في ذهني حتي الآن, وتعلمت منهما معني الوطنية.
المهم أنه عندما أنهي الثوار العملية كان لابد لهم من الهرب من طريق طويل بعيدا عن أعين الدورية, وحتي يختصروا الطريق ليهربوا عبر طريق جانبي اقتحموا بيتنا وكان للبيت باب رئيسي علي الشارع والباب الخلفي يطل علي حديقة أو خوخة كما كانوا يسمونها في ذلك الزمان تهبط إلي منطقة أخري غير معمورة, وبالفعل نجحوا في الهرب, ولما جاءت الدورية مرة أخري لم تجدهم بالفعل, وفي أعقاب ذلك أعلن حظر التجول في تلك الساعات, وامتلأت الحارة بالدبابات والمجنزرات والدوريات الأخري, وبدأو يدخلون البيوت وينتزعون منها أي رجل موجود بداخلها, وقاموا بحشدهم جميعا في جامع الشمعة ثم بعدذلك قادوهم عبر سيارات لانعرف أين ذهبوا بهم.
كان والدي وشقيقي الأكبر في هذا الوقت خارج البيت حيث كانا يفطران عند شقيقة لي تسكن بيارة( منطقة) بعيدة, وأصبحت أنا في تلك اللحظات العصيبة أكبر واحد في البيت, والبيت في حالة رعب جراء حظر التجول وقوات الإنجليز تحاصرنا في كل مكان, لحظتها شعرت أني ذلك الصغير الذي كبر فجاة, وقد وصفت هذا المشهد الذي مازال محفورا في ذاكرتي في قصيدة ووصفت بدقة أكثر شعوري وأنا في حضن أمي وهي تمسك بي إلي جوار صندوق الملابس, وأذكر أنه عندما كانت قدماي تتحركان من ناحية اليمن إلي الشمال أو العكس تضرب الصندوق تنتفض أمي وتصرخ معتقدة أن أحدا قد دخل علينا.
في صباح اليوم التالي جاءو وأخرجونا من البيوت, وأصبح كل السكان بعيدين عن الحارة, وفي حوالي الحادية عشرة قبل الظهر رأينا من بعيد انفجارات في الحي, حيث نسفوا بعض البيوت والدكاكين في المنطقة التي حدثت فيها المواجهة مع الملثمين ومن بينهم بيتنا, ومن تلك الساعة في ذلك اليوم كما اقول دائما وفي كل مكان دخلت محراب أو زنزانة القضية الفلسطينية.
لكن بعد ما تشكل وجدانك الشعري وصارت القضية جزءا من تكوينك الإنساني, أو دخلت زنزانة القضية بحسب تعبيرك- كيف رسمت صورة لملامح هذا الوطن في عقلك الصغير آنذاك ؟
خرجت من هذه التجربة التي ذكرتها في حارة الزيتون بأنه بالأساس لي عدوان, الأول مباشر وهو اليهود الإسرائليون الغزاة الذين جاءو ليغتصبوا الوطن, وعدو ثان غير مباشر يساعدهم وهم البريطانيون, ثم أدركت من الصغر فحوي شيئ إسمه وعد بلفور وهو كما قال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر: وعد من لايملك لمن لايستحق يعني منحهم بلدا ليست بلدهم ووطنا ليس وطنهم, ومن هنا أصبحت القضية الفلسطينة في وجداني, وبدأت من خلال ديوان والدي أسمع كل يوم ما يبيته لنا الصهاينة, عندئذ تشكلت ملامح الوطن بداخلي, بل أن كل هذا شكل لي ما ثبت عليه منذ ذلك الزمان وحتي الآن.
دعني أخرج قليلا عن أجواء القضية وأسألك سؤال شخصيا وهو: ما قصة تسميتك هارون الرشيد هاشم رشيد وهل لتلك التسمية من مفارقات في حياتك؟
عندما ولدت خرج والدي من البيت في اتجاه الجامع والتقي بوالده- جدي عمدة الحارة الحاج علي رشيد والذي سأله أيش جاب الله يعني بماذا رزقك الله؟ قال له ذكر, فقال وماذا تريد أن تسميه قال: هارون الرشيد, قال له إلي هذا الحد تحب العباسيين, فرد أبي: أحب هارون الرشيد, وكان والدي مغرما به بالفعل وربما كان لديه ولع بالعباسيين, وكبرت وأنا أعرف هذا جيدا, وعلي الرغم من أن شهادة ميلادي تحمل اسم هارون الرشيد هاشم رشيد إلا أنني اختصرت الإسم فيما بعد إلي هارون هاشم رشيد لسببين الأول: لأنني لم أكن أفهم قصة تسميتي هكذا, خاصة أني كنت أتعرض للسخرية والتهكم كثيرا خاصة من جانب الكبار,
والثاني أن أردت أن أقدم لولدي ما قدمه لي ويظل ذكره أنه أنجب هذا الإنسان ومع بدايات النشر الأولي لأعمالي الشعرية أختصرت الاسم بالفعل.
أما علي مستوي المفارقات التي حدثت معي بسبب تسمية هارون الرشيد, فربما قد كانت هناك مفارقات سعيدة بهذا الاسم خاصة عندما كنت أقف علي الطاولة وأقرأ الشعر, لكن المفارقات غير السعيدة كانت عندما دخلت المدرسة وبدأت أنتقل من سنة لأخري بشكل طبيعي, إلي أن وصلت السنة الرابعة حتي حدثت مفارقة مذهلة عندما جاء لنا مدرس من مدينة بئر السبع إلي غزة وتولي مسئولية الفصل, ومع أول موضوع إنشاء في اللغة العربية كلفنا به جاء في اليوم التالي ينادي علي أسمائنا ثم توقف أمام اسمي وقال بسخرية مصحوبة بالدهشة هارون الرشيد مرة واحدة, فقلت له هذا اسمي يا أستاذ كما هو مكتوب في شهادة الميلاد, فقال لي بلغة آمرة: لا..لا.. لابد أن تغير اسمك علي الفور إلي هارون هاشم رشيد, فقلت له لماذا؟ أليس إسمك محمد وهناك كثيرون يسمون بذات الاسم أيضا فهل أطلب منك أن تغيره, فهب ثائرا وطردني من الفصل فتوجهت إلي ناظر المدرسة الذي كان يسمي بشير الريس وكان ينتمي إلي حارتنا ووالده, صديق والدي, وكنت أعرفه جيدا بحكم أن أذهب إلي ديوان والده ويأتي إلي ديواننا أيضا وكان يعاملني كأحد أبنائه, وفور أن دخلت عليه سألني: ماذا حدث لك؟ فقصصت عليه الحكاية.. ضحك كثيرا لأنه يعلم أن هذا الأستاذ متشدد جدا, وقام وربت علي كتفي وقال: إذن ننقلك من الفصل الرابع1 إلي الرابع2, وربما كانت هذه أكبر المفارقات وأنا صغير, فضلا عن ما كنت أواجهه كثيرا فور ذكر إسمي في التليفون حيث يعتبره البعض نوعا من السخرية وليس إسمي الحقيقي.
نعود مرة أخري إلي لب القضية الأساس في حياتك, ماهي الأسباب الحقيقية التي أدت إلي رسوخ فكرة العودة والتي تأسست عليها معظم قصائدك الشعرية بعد النكبة عام1948 م.
بعد صدور أول ديوان لي عام1954 من رابطة الأدب الحديث بالقاهرة بمقدمة من الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي رحمه الله, وكانت لهذا الديوان قصة غريبة بعض الشئ حيث صدر في عدم وجودي بعد ما حمل أوراقه المرحوم الشهيد صلاح خلف أبو إياد وذهب بها لصديقه الدكتور خفاجي في رابطة الأدب الحديث الذي كتب المقدمة بالإضافة إلي أربعة من الأدباء الكبار آنذاك: الدكتور علي مصطفي السحرتي الذي كان عميدا للنقاد, الدكتور وديع فلسطين, الدكتور عبد الله زكريا الأنصاري, وأيضا رضوان إبراهيم, كل هؤلاء كتب كل واحد منهم بحثا في آخر الديوان يقدم من خلاله رؤيته حول تلك التجربة الشعرية, وهذا بالطبع فاجأني وأذهلني, وفتح أمامي عالما كبيرا لأن هذا الديوان أحدث ضجة في القاهرة وبيروت وليبيا أيضا, ومن هنا فقد وضعتني مصر علي أول الطريق.
الديوان إسمه مع الغرباء وهو تسجيل حي لما رأيته بعيني وشاهدته وعشته من أيام النكبة, صحيح أنني من غزة وهي مدينة لم يهاجر أهلها, لكن شاءت الظروف أن أعيش المأساة بكامله, ويرتبط اسمي بحق العودة, لسببين, الأول: أني أعرف فلسطين قبل أن تضيع مدينة.
ولكن كيف حدث ذلك؟
كان والدي رحمه الله ونحن نقترب من نهاية السنة الدراسية يجلس معنا ويقول لي ولإخوتي: من ينجح منكم له مكافأة مني رحلة إلي إحدي المدن الفلسطينية خارج غزة, وبدأنا بالمدن القريبة منا والتي لنا فيها أقارب, كأنما كان أبي يستشرف شيئا خطيرا فآثر أن يثبت هذه المدن في ذاكرتنا, وأذكر أن أول مدينة تعلقت بها بعد غزة وكتبت عنها كثيرا كانت مدينة يافا والتي غنت لها فيروز من كلماتي أبي قل لي بحق الله/ هل نأتي إلي يافا, وكان يسكنها اثنان من أعمامي, وثلاثة أعمام في بئر السبع, كيف قصتهم ولماذا هم من غزة ويسكنون بئر السبع ويافا.. تلك هي معضلة أخري رسخت بداخلي قضية العودة.
في الحرب العالمية الأولي والكبيرة ضد الأتراك والعثمانيين صارت معركتان في غزة, وحتي يضمن الأتراك نجاح المعارك علي الأرض طلبوا من سكان غزة الرحيل عنها خلال24 ساعة.. الرحيل الفوري إلي أي مكان في الدنيا حتي تتحول المدينة لساحة قتال مفتوح, لذا ذهب اثنان من أعمامي ليافا وثلاثة لبئر السبع, وبذلك تفرقت بالناس السبل ثم طالت المدة وكانت الحياة هناك أسهل في العيش بالنسبة لهم فاستقروا وعاشوا حياتهم.
ثم ذهبت إلي مدينة حيفا حيث كان لي شقيقة متزوجة هناك وعشت في جبل الكرمل وتمتعت بها إلي أقصي حد, وإلي جانب حيفا كانت مدينة عكا والتي كان يسكنها خالي الذي يعمل مديرا للبريد, والذي انتقل في ما بعد إلي الخليل فذهبت إليه أيضا في تلك المدينة, وهكذا زرت كل المدن القريبة خاصة التي لنا فيها اقارب, ثم باقي الضفة الغربية, وذهبت إلي القدس التي كان يسكنها أخي علي بحكم الدراسة,ومن ثم عايشت الظروف والملابسات التي مرت بها القضية الفلسطينية منذ البدايات الأولي.
والسبب الثاني أنه في عام1948 في ريعان الشباب- خرجت مع الشباب في سني كي نستقبل اللاجئين القادمين من يافا, وكان هذا أول مشهد عرفناه في الهجرة, حيث بدأ الفلسطنيين يأتون في مراكب كبيرة, وتلك المراكب كانت تقف في عرض البحر بالقرب من شاطئ غزة التي لم يكن بها ميناء فتذهب الزوارق الصغيرة لنقل الأسر واحدة تلو الأخري, ونحن نقف داخل المياه قرب الشاطئ نحمل الناس علي أكتافنا ونصل بهم إلي بر الأمان, وكثيرا ما كانت تدور في رأسي الأسئلة الصعبة في تلك اللحظات عن مصائر هؤلاء البشر الذين كانوا يسكنون يافا وهي عروس فلسطين في ذلك الزمان؟,كيف تركوا أرضهم وبيوتهم العامرة بالخير تحيطها الحدائق الغناء ليسكنوا المدراس والمساجد الغزاوية ويحتملون شظف العيش فيها ؟
تري هل يمكننا القول أن تلك الأسئلة وغيرها من علامات الاستفهام الصعبة والتي كبرت بداخلك مع الأيام كانت بمثابة جروح غائرة رسخت الشعور بالنكبة, وولدت شعورا آخر بالعودة في آن واحد؟
بالطبع كان شيئ من هذا وأكثر يدور بداخلي لكن الشعور الأكبر قديم كما قلت لك من قبل ويرتبط إلي حد كبير بمشاهد الطفولة, لكنني أدركت بمجرد وصول المراكب إلي غزة أن فصول المواجهة قد بدأت, ودعني أصف لك شعورا آخر, فبعد أن وزعنا اللاجئين علي المساجد والمدارس قمنا بإعداد مخيم لهم قريب من الشاطئ, ومع أول وتد وضعناه في هذا المخيم ظلت الأسئلة تطاردني عن: كيف يمكن أن يعيش هذا الإنسان القادم من مواطن رغد العيش في مخيم فقير؟, إذ لابد أن يتسرب اليأس إليهم مع تلك الحياة الجديدة المصحوبة بتحولات دراماتيكية مذهلة, ومن هنا كتبت أول قصيدة لي بعد النكبة كي أزرع الأمل في قلوب هؤلاء الناس المهاجرين الذين تركوا أرضهم وديارهم ليسكنوا ذلك المخيم, وقد غناها المطرب الكبير محمد فوزي وتقول كلماتها:
أخي مهما ادلهم الليل سوف نطالع الفجر
ومهما هدنا الفقر غدا سنحطم الفقر
أخي والخيمة السوداء قد أمست لنا قبر
غدا سنحيلها روضا ونبني فوقها قصر
غدا يوم انطلاق الشعب يوم الوثبة الكبري
سنمشي ملء عين السمش نحدو ركبها الحر
فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخري
ودعني أقول لك أيضا أنه من ديواني الأول في الفترة من1954 إلي1956 عشت مع اللاجئين, وكتبت قصيدة أتت ليلة لوالدها وهي قصة واقعية لفتاة جاءت بالفعل لوالدها الذي كان من سكان المخيم, لكن بعد فترة قصيرة من الزمن, بدأت أفكر كيف لنا أن نسترد فلسطين التي ذهبت ونركز علي فكرة العودة, وكنت أول من أطلق عبارة إننا عائدون.. عائدون عائدون إننا لعائدون, وأصبح ذلك هو نشيدا للاجئين ينتشر في كل المخيمات والمدارس, وفي كل أنحاء فلسطين, ثم كان يردده التلاميذ في المدارس المصرية والعربية.
هذا النشيد وغيره من القصائد الأخري في ديواني الأول رسخ مفهوم العودة بداخلي حتي سميت ديواني الأول عودة الغرباء والذي يحوي بداخله كل تلك المعاني والمآسي, ومن خلالها بدأت أزرع في نفوس الناس الأمل في العودة, وأصبح بداخلي يقين أنه في المستقبل القادم لابد أننا عائدون إلي أرضنا, فلايمكن أن نستسلم مهما كان, حتي أن كثيرا من الناس كان يعجبون من قولي: فلسطين الني ذهبت سترجع مرة أخري, وقد استلهمت هذا الحلم من عبارة تقول فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخري مكتوبة علي قماشة عريضة في مدخل معسكر البريج والذي يعد أكبر معسكر في قطاع غزة, وربما كان دافعي الأكبر لأكتب كل هذا الشعر عن العودة.
ثم وضعت خطة لنفسي بعد ذلك من خلال إلقاء هذا الشعر علي الناس الذين يقنطون في مخيمات اللاجئين في غزة إلي البريج وغيرها من المعسكرات, ولم يكن حرصي أكثر علي النشر, بل كنت أكتب الشعر كي ألقيه في المخيمات وسط اللاجئين سواء كانوا علي الأرض أو عبر أنديتهم الثقافية التي كانوا يقيمونها, لذلك كان أول تفجير مسلح خرج من غزة خرج من قلب تلك المخيمات, ومن بداية الخمسينات بدأ الاشتباك مع الإسرائيليين علي طريق الكفاح المسلح في سبيل تحقيق تحرير الأرض وعودة اللاجئين.
لكن دعني أسأل: لماذا أطلق عليك الشاعر الفلسطيني الكبير عز الدين المناصر تسمية شاعر القرار194 أو بمعني آخر ماهي المرجعية الشعرية التي أدت به إلي تسميتك بذلك ؟
أولا عز الدين المناصرة واحد من أهم الشعراء الذين عاشوا القضية الفلسطينية وعاصروا مراحل الكفاح الفلسطيني منذ بداياته الأولي, وأذكر أنه كتب عن ديواني الأول مع الغرباء عديد من الدراسات النقدية التي تشير إلي أن شاعر النكبة, وعندما صدر ديواني الثاني عودة الغرباء أطلقوا علي شاعر العودة, وأضافوا إليه شاعر القرار194 حتي يلزموا العودة بقرار الأمم المتحدة رقم194 الصادر بتاريخ11 ديسمبر1948 م, والذي ينص علي حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلي ديارهم, ومن هنا قرن المناصرة القرار194 باسمي باعتباري أول من استخدم تعبير العودة عائدون.. عائدون.. اننا لعائدون, وأصبحت من يومها شاعر العودة وشاعر القرار.
لكن دعني أذكر لك أن أهم ماكتبه عني المناصرة أنني ضد الأسرلة, بمعني أنه في ظل الاتجاه إلي تمييع القضية والسلام المشئوم, كنت قد بدأت مبكرا جدا في الرد علي كل ذلك, وكان أول ردين تمثلا في قصيدتين إحداهما في جامعة دمشق عام1958 م, والثانية في الاسكندرية أوائل الستينيات.
من فوق منبر جامعة دمشق قلت:
أنا لست أؤمن بسلام ولا بأنصار السلام
أنا لست ألقي مدفعي يوما ولن ألقي حسامي
حتي أعود ورايتي خفاقة فوق الأمام
ويعود كل النازحين مع الهناء والابتسام
في يومها يحلو السلام أكون في صف السلام
أما في جامعة الإسكندرية وفي حضور مندوب الرئيس جمال عبد الناصر وقفت في أثناء الاحتفال بأيار أيار يا أيار كيف تعود يا أيار.. فالليل ليل والدمار دمار وقلت:
ياأخوتي في كل أرض.. أنت أمل البلاد وأنتم الثوار
لاتؤمنوا بالسلم فهو خرافة.. إنا به وبأهله كفار
من أين يأتينا السلام.. وأرضنا باسم السلام يسودها الأشرار
أو بعد هذا ويقال عنا لاجئون.. وغيرنا في دورنا وديارنا ديار
أوبعد هذا لانهدد سلمهم.. عار علينا أن يظل العار
وصفق الجميع في لحظة انفعال لا أنساها خاصة عندما هتف مندوب الرئيس عبد الناصر قائلا بالحرف الواحد: وكلنا ياهارون كفار, وقد كتبت تلك القصيدتين بالتزامن مع ظهور دعاة السلام والبدايات الأولي لفكرة التفاوض مع اليهود ومن بين هؤلاء كانت هناك جماعة عربية تسمي نفسها أنصار السلام, تدعو للتفاوض مع الإسرائيليين بشكل مباشر, وهو رفضته وأرفضه قطعا ماحييت, وسأظل قابضا علي جمر القضية وأسيرا في زنزانتها حتي العودة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.