أعلن رئيس مجلس الوزارء عن نقل الوزارات إلى عاصمة إدارية جديدة على طريق القاهرةالسويس، وأن هناك إجراءات لتنفيذ ذلك . وهذا الموضوع مثار بصور مختلفة منذ أكثر من عشر سنوات . فعند إنشاء مدينة السادات اتُخذ قرار بنقل بعض الوزارات هناك وتتم فعلا إقامة مبان لعدد من الوزارات، إلاّ أن الوزراء والعاملين بتلك الوزارات رفضوا تنفيذ الانتقال. وفى عام 2006 اتخذ مجلس الوزراء قرارا بنقل 16 وزارة - توطئة لانتقال باقى الوزارات - الى موقع مقابل للقاهرة الجديدة، وهو ما يعنى نقل مشكلة التكدس المرورى من وسط القاهرة الى مكان آخر. ثم رأى المجلس عام 2007 وضع خطة لإنشاء عاصمة جديدة، إلا انه تم الغاء ذلك بتوجيهات عليا حيث إنه لا الظروف ولا الإمكانات تسمح بذلك. وأهمية العواصم العريقة، تنبع من تراكم حضارى عبر سنوات طويلة. فبالإضافة إلى وجود الوزارات والأنشطة المركزية المالية والاقتصادية والخدمية فإنها تجمع مراكز الإشعاع الثقافى والترفيه ، وهو ما يبّين للزائر الأجنبى مدى عراقة وتقدم الدولة وحضارتها القديمة والمعاصرة، ومساحة وسط القاهرة كمركز لهذه الأنشطة فى تزايد مستمر. فبينما انحصر حتى بداية الستينات من القرن الماضى فى مثلث التحرير- العتبة «باب الحديد، يمتد حالياً بمُعدل متسارع حيث أن هناك تحولا متلاحقاً لإحلال مقار الإدارات العليا للأجهزة الاقتصادية والخدمية مكان المساكن. فإمتد إلى جاردن سيتى وماسبيرو وبولاق وعَبَر النيل للدقى . وذلك رغم تعقيدات المرور وقوانين ايجارات المساكن المطبقة منذ أكثر من خمسين عاما. والأهمية الإقتصادية لتوطن الأنشطة فى هذا الموقع، ترجع إلى أنه الأقرب لمختلف العاملين والمتعاملين معها والقادمين من مختلف ارجاء التجمع السكانى ، كذا لمراكز إتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية والسياسية، ومن ثَّم سهولة وسرعة توفير المعلومات اللازمة لإنجاز العمل. حيث أن مهمة ديوان عام الوزارة أو الإدارة العليا للمنشأة تنحصر فى الآتي: بلورة رؤية لدور ومهام الوزارة أو المنشأة؛ وإقرار السياسات؛ ووضع الخطط؛ واتخاذ القرارات الاستراتيجية؛ وتوفير الامكانات المادية والبشرية اللازمة؛ ومتابعة التنفيذ. وهو ما يجعل العاملين فى ديوان عام كلّ وزارة لا يزيد عددهم على نحو 200 شخص. ، فمن البديهى أن تخفيض عدد العاملين بالوزارات بالإضافة لتوفير احتياجات المواطن فى المكان الذى يقيم فيه أو فى أقرب موقع متاح، يعنى تحجيم جذرى فى حجم حركة المرور بمنطقة وسط القاهرة ، والمدينة بشكل عام. هذا ولا مجال للمقارنة بين الدول التى نقلت عواصمها والدول الأخرى . فعادة ما تنحصر الدول التى نقلت عاصمتها فى دول متخلفة فشلت فى تطبيق الأسس العلمية المتطورة لتنظيم النقل والمرور. وهناك دول أخرى يكون نقل العاصمة لأسباب سياسية . فنيجيريا نقلت عاصمتها من «لاجوس» الى «أبوجا» وباكستان من «كراتشى» الى «إسلام اباد». أما البرازيل فقد نقلت العاصمة من زسان باولوس إلى «برازيليا» وفقا لدستور 1922،إلاّ أن النقل لم يتم إلّا بعد 38 سنة. ً. ومن الواضح أن السبب الحقيقى وراء محاولات نقل عاصمة مصر وهو الرغبة فى حل المشكلات المتفاقمة للمرور بها وبوسطها بشكل خاص. وبصفة عامة يُرجع الجميع مشكلة تعقيدات المرور بالقاهرة إلى واحدة أو أكثر من أربعة أسباب نُجملها فى الآتي: تضخم عدد السيارات ؛ ومحدودية شبكة الطرق؛ وسلوكيات سائقى السيارات والمشاة؛ تضخم حجم القاهرة وامتدادها. إن تضخم حجم العاصمة سمة عالمية نظراً لانتقال الأفراد من الريف إلى الحضر. وذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية وترفيهية، وهو ما يتوافر فى العاصمة بدرجة أكبر ويتوقع «دوجلاس ماسي» أن عدد المدن الضخمة- التى يصل تعداد سكانها إلى 35 مليون نسمة- سيفوق 25 مدينة، وهو تعداد طوكيو حاليا . والآن يوجد عشرات المدن تعدادها مثل القاهرة الكبرى والذى يصل الى 17 مليون نسمة، بينما تعداد سول 23 مليونا، وبكين 20 مليونا، ومكسيكو سيتى 19 مليونا، وسان باولو 18 مليونا. ومتوسط طول رحلة الراكب فى القاهرة أقل منها كثيراً عن عواصم الدول المتقدمة ذات تعداد السكان المماثل. ويرجع هذا لتكدس سكان القاهرة فى مساحة أقل عنها فى تلك المدن. فالكثافة السكانية بالقاهرة حوالى 25ألف شخص فى الكيلومتر المربع، بينما لا يتعدى 5 آلاف فى لندن. وهو ما يعنى ضخامة الحركةحجم المنقول (اجمالى راكب كيلومتر) فى تلك العواصم - ذات نفس تعداد السكان- عنه فى القاهرة، أما بالنسبة لإجمالى عدد السيارات فى مصر فإنه 7 ملايين سيارة، 3 ملايين منها فى القاهرة الكبري. بينما عدد السيارات فى ألمانيا 56 مليون سيارة، وفى فرنسا 40 مليون سيارة وفى بريطانيا 35 مليون سيارة. وعرض الطرق فى القاهرةوالعواصم الأوروبية متقارب لحد كبير رغم التفاوت الضخم فى عدد السيارات. فعرض أهم شارع فى لندن زشارع أكسفوردس 30 متراً 60% منه رصيف، بينما شارع 26 يوليو بالقاهرة 26 متراً 24%منه رصيف ، وشارع الشانزيليزيه فى باريس 60 متراً 50% منه رصيف، بينما شارع الحجاز بمصر الجديدة 45 متراً22% منه رصيف . وهو ما يعنى أن نهر الطرق أكبر فى القاهرة . أما بالنسبة لسلوكيات سائقى السيارات والمشاة فى مصر، فنعتقد أن المصريين - وبصرف النظر عن مستوياتهم الثقافية أو التعليمية - هم من أكثر الجاليات المقيمة بالخارج إنضباطاً. ويرجع عدم إنضباطهم بمصر لغياب تنظيم وضبط إستخدامات نهر الطريق ورصيفه ومواصفاتهما، كذا السيارة الخاصة وسائقها وشروط صلاحية كل منهما لممارسة العمل؛ وعدم مراقبة تطبيق ذلك بشكل حاسم. والجميع يعلم كَّم الإستثناءات التى يحصل عليها بعض فئات المجتمع، كذا إغماض العين عن المخالفين.إن تعقيدات المشكلة بالقاهرة لا ترجع فقط لخلل منظومة النقل الجماعى بمختلف مكوناته: من نقل جماعى عام وخاص وعشوائى ، بل ان سببها الأساسى خلل السياسات والتنظيمات المطبقة على مدار الخمسين عاما الأخيرة ، والتى أدت الى توليد حركة نقل إضافية مفتعلة وغير مبررة نقدرها بما لا يقل عن 40% من اجمالى حجم الحركة الحالي. كذا لغياب الرشد- بل إهدار- الكثير من الإمكانات المتاحة بعدم إستخدامها وفقاً للتكلفة والعائد لكل بديل. كما أن هناك تعدد للجهات (حوالى 12 جهة) التى تتخذ قرارات لحل مشكلة المرور بالقاهرة تتكلف مئات الملايين من الجنيهات ، دون أدنى تنسيق بينها . إن تصحيح السياسات والقرارات الخاطئة وفقا للأسس العلمية التى تحكم تنظيم النقل والمرور كذا ترشيد إستخدام الإمكانات ذ وليس نقل العاصمة بآثاره السلبية الخطيرة - هو المدخل لتحجيم المشكلة دون ما تكلفة باهظة تفوق ماهو متاح حاليا . وهو ما سنوضحه تفصيلا فى دراسة متكاملة، تناقش فى ندوة عامة يدعى لها المسئولون والمتخصصون والمعنيون بالمشكلة. وتعتمد هذه الدراسة ليس على اجتهاد شخصي، بل على خبرة متخصصة تخصصا دقيقا على مدار أكثر من خمسين عاما . أستاذ إدارة واقتصاديات النقل لمزيد من مقالات د.سعد الدين العشماوى