التاريخ هو الشاهد الحى على كل عصر وزمان، فهو نور الحقيقة والذاكرة غير القابلة للضعف والوهن بمرور الزمن، ومن ثم تنص القاعدة الذهبية فى كتابة التاريخ على أنه يجب أن يكتب بعيدا عن أى توجهات، أو أهداف، أو أهواء شخصية تجافى معايير واشتراطات الموضوعية والنزاهة والدقة. تلك قاعدة تبدو فى نظر البعض بديهية وغير محتاجة للتذكير بها بين الحين والاخر، ولا التشديد عليها، لكن الواقع يؤكد احتياجنا الشديد للتذكير بهذه الحقيقة المهمة طوال الوقت، لا سيما وأننا نواجه مشكلة عويصة مع التاريخ منذ القدم، ولدينا أحدث مثال على ذلك بالجدل المثار حاليا، حول كتاب التاريخ المقرر على طلاب المرحلة الثانوية ، والذى ورد فيه أن حزب النور غير دستورى لقيامه على أساس دينى، مما يتنافى مع مبادئ الدستور الجديد القاضى بحظر قيام الأحزاب الدينية فى المحروسة. ولست مشغولا برد فعل النور واعلانه أنه يتعرض لحرب تكسير عظام، ولا برد فعل وزارة التربية والتعليم وتشكيلها لجنة لدراسة الموضوع، فما يشغلنى حقا يتصل بمسألتين، الأولى تتعلق بأن الأحداث الواردة فى كتب التاريخ المدرسية عن ثورتى 25 يناير و30 يونيو لا تزال ماثلة أمام عيوننا على الأرض ولم تتبلور بعد فى شكلها النهائى ، ومن الصعب الحكم عليها بصورة قاطعة، خاصة أن جزئيات عديدة منها موضع اختلاف ولسنا على دراية كاملة بحقائقها وابعادها. المسألة الثانية تخص ما إذا كانت عملية تحديث منهج التاريخ مستوفية للشروط والمعايير العلمية، أم أن التوجه الشخصى والهوى السياسى لمن تولى تحديثه قد طغى على الجوانب العلمية المنتظر التقيد بها وعدم تجاوزها. والشق الأخير يعد الأخطر فى مشكلتنا مع التاريخ، فغيابه فى كثير من الاحيان كان عاملا وراء طمس وقائع وحقائق تاريخية لا تعد ولا تحصى، فمثلا إن بحثت اليوم عن وثائق ثورة 1952 فانك فى الغالب لن تعثر عليها فقد اختفت بفعل فاعل، ومن تبقى من المؤرخين المنصفين اجتهد فى التنقيب عنها لاعطاء كل ذى حق حقه، وأضطر بعضهم للاعتماد على مصادر من الدرجة الثانية وربما الثالثة لتوثيق حقبة تولى اللواء محمد نجيب الرئاسة، وهى الفترة التى لم يرد ذكرها كلية فى كتب التاريخ المدرسية فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، نفس الشىء حدث فى هزيمة 1967 فكثير من حقائقها لا يزال مجهولا ولم نجد مفرا من الارتكان إلى ما سرده بعض المسئولين آنذاك فى مذكراتهم. تكرر ذلك مع حرب أكتوبر التى نحتفل بذكراها العطرة الآن، فالمعلومات والوثائق شحيحة للغاية، وما اطلعنا عليه منها تلون برؤية من كتبها، والحصيلة كانت أننا نجهل تاريخنا الحديث والقديم، والمعرضة بعض مراحله للانزواء والاختفاء، بسبب عدم التيقن من صدق المتداول عنها. وإن كنا حريصين على التعلم من أخطاء الماضى القريب والبعيد فحتما ولابد من العمل على استجلاء الحقائق المتصلة بثورتى 25 يناير و30 يونيو من مصادرها الموثقة وتمحيصها بشكل دقيق، وتلك مهمة الحكومة المتعين عليها الاستعانة بأناس مشهود لهم بالكفاءة والخبرة فى المجال التاريخى لتولى عبء التأريخ لهما، والتأريخ يعنى التجرد، فلا موقع للمجاملات ولا لتصغير دور طرف على حساب تكبير وتعظيم دور طرف أو أطراف أخرى. وفى هذا الاطار لنبتعد عن مقولة رئيس وزراء بريطانيا الراحل ونستون تشرشل: « سوف يذكرنى التاريخ بالخير، طالما أننى أكتبه بيدى»، ولنتذكر قول ابن خلدون: «إن التاريخ فى ظاهره لا يزيد على الاخبار، ولكن فى باطنه نظر وتحقيق». ونحن نريد ونحث على النظر والتحقق، فما أيسر الاستسهال، وللأسف فتلك شيمتنا على مر العصور - اللهم الا فيما ندر -، وعند اضطلاعنا بهذه المهمة الجليلة - التأريخ - لنضع فى أذهاننا الأجيال القادمة، والتى إن لم تطلع على الحقيقة كما وقعت فإن ارتباطها بهذا البلد سيضعف ويضمحل، وسيصبح الوطن الخاسر الأكبر فى المعادلة. رب قائل هل تود التريث فى كتابة تاريخ ثورتى المصريين إبان السنوات الثلاث المنصرمة؟ نعم من واجبنا التريث وعدم الاندفاع، حتى نتبين الخيط الأبيض من الأسود، فنحن لا نزال نقف فى منطقة عدم الاتزان، وبالتالى فإن أحكامنا على الأمور لن يكون صائبا وسيكون مليئا بالعيوب والخطايا، مثلما وقع فى قصة كتب التاريخ المدرسية خلال الأيام الماضية. وبالتأكيد فإن المطلوب ليس رؤية موحدة للتاريخ تنتصر لجهة على حساب أخرى، فبدون شك ستكون هناك جوانب خلافية، وهذا لا بأس به، فالاختلاف وارد ومرحب به إن كان مرتكزا على بيانات ومعلومات تعزز بالحجة والبرهان القوى الناصع هذا الرأى أو ذاك، أما فى حالتنا فالمعلومة غائبة وتشكك جهات عدة فى صحتها وصدقها. وبما أننا نعاصر الحالة الثورية فالواجب أن تمتد لاصلاح مشكلتنا المزمنة مع التاريخ، حتى لا نبقى اسرى ورهائن لتصورات لا تمت للواقع بصلة، وجزء من الحل أن نعتنى بميراث رؤساء مصر منذ ثورة 52، ولنفعل مثل الغرب الذى يحتفظ بأوراقهم ووثائقهم وقراراتهم فى متاحف ومكتبات يرجع إليها كل من يسعى لدراسة هذه الحقبة أو تلك، لكى لا نتحسر فى وقت لا يفيد فيه الندم على ضياع تاريخنا، ورجوع الباحثين للمراجع الأجنبية عما جرى فى بلادنا لتأكدهم من دقة وصدق ما جاء فيها. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي