يترصد العدم لوجودنا الإنسانى برمته، حيث الموت قائم هنا وهناك، فى ذلك الركن القريب أو القصى من عالمنا، يثير فينا شعورا عميقا بالخوف لا يمكن الهروب منه. لقد أدركت البشرية باكرا أن هناك شيئاً مخيفاً في تدفق الزمن، لغزاً لا تستطيع حله، ولا تستطيع تجاهله فى الوقت نفسه
وإلا هاجمتها مشاعر العبث والقلق، لتقض مضاجعها، وتفترس وجودها، فإذا لم يكن وراء هذه الحياة حياة أخرى، فلابد أن يزداد الحرص على البقاء لأطول مدة، وعلى الاستمتاع بها إلى آخر مدى. ولأن الكثيرين يعجزون عن هذا الاستمتاع لضيق ذات يدهم، أو عن البقاء طويلا بفعل اعتلال صحتهم أو مفاجآت الأقدار لهم، فلابد أن مشاعر الخواء سوف تحيطهم وتسيطر عليهم. وهنا صارت فكرة (البعث)، ضرورة نفسية وحاجة إنسانية، تطورت بموازاة تطور العقل البشرى، فلكي تكون الحياة إنسانية بكل ما في هذه الكلمة من معني، يجب أن تهدف إلي غايات سامية، تبقى خارج نطاق الوقائع اليومية الضاغطة للحياة البشرية، غايات غير شخصية، تعكس مثلا وقيما فوق مستوي البشر: كالحقيقة والخير والجمال، وغيرها.. فاتصال الإنسان بهذا العالم الخالد، يمده بقوة روحية وسلام نفسي عميق. ومع توالى الرسالات الدينية، صارت الفكرة مفهوما متكاملا، يفسر لنا الوجود برمته ويمنحه المعنى، حيث الغايات الأكثر أصالة لوجودنا، تنجم بالأساس عن الحضور الإلهى فى عالمنا. وقد بلغ هذا المفهوم من الحيوية في إثراء الحياة الإنسانية، حدا دفع بعض الفلاسفة إلى اعتباره الأكثر أهمية فى صوغ تاريخ الدين، من فكرة «وجود الله» نفسها، على منوال وليم جيمس الذى عبر عن ذلك الفهم بقوله: «إن الدين فى الواقع عند الأغلبية يعنى خلود الروح ليس إلا.. وأن الله هو موجد ذلك الخلود». وكذلك مارتن لوثر الذى قال مساجلا من يرفضون مفهوم البعث: «إذا لم تعتقد فى اليوم الآخر، ما ساوى إلهك عندى شيئا». وقد اتبع بعض الشعراء هذا الرأى مثل الشاعر الرومانسى «تينيسون» الذى أعلن فى شجاعة نادرة: «لو أن خلود الروح غير حقيقى لكان شيطانا مزورا، وليس الله، هو من خلقنا». وقد ارتبط مفهوم البعث بمفهوم آخر يكمله بقدر ما يترتب عليه، وهو مفهوم (الخلاص) الذى ينبع من شعور المرء بأنه إذا كانت هناك حياة أخرى نصير إليها، فالغاية أن تكون تلك الحياة سعيدة، ما يفرض أن تكون الحياة الأولى أكثر أخلاقية. ورغم أن فكرة الخلاص قديمة قدم الإنسان الأول (البدائى) الذى قدم القرابين، حتى البشرية منها، للآلهة الوثنية، والظواهر الكونية كى تحفظ له وجوده، أو تساعده على كسب قوته، فإنها اكتسبت حضورا طاغيا فى الدين التوحيدى، لأن الأخير يضيف إلى الوعى الإنسانى عالما جديدا هو عالم الغيب، الذي يجعل وجودنا أكثر امتدادا وتكاملا وعمقا. وبحسب الشرائع التوحيدية الثلاث، فإن الخطر الذى يحول دون بلوغ الإنسان غايته الأخلاقية، ومن ثم فقدان المعنى الجوهرى لوجوده، إنما ينبع من مصدرين: أولهما من داخل نفسه، حيث الأخطاء التى يرتكبها والآثام التى يقع فيها. وثانيهما من خارجه، حيث الخطيئة الأصلية التى وقع فيها الجد الأول، وصارت منه بمنزلة القدر المقدور. مالت المسيحية، مستندة إلى العهد القديم والموروث اليهودى، إلى المصدر الثانى، حيث تمحورت الكنيسة الكاثوليكية حول مفهوم الخطيئة الأصلية، خطيئة آدم، التى أفسدت الطبيعة الإنسانية ذاتها، حتى لم يعد الإنسان قادرا على النجاة بجهده الذاتى مهما بلغت تقواه، بل ثمة فداء ضرورى مطلوب لخلاصه، من كائن أرقى منه، يخلو من خطيئته الأبدية، وهو ما قدمه المسيح عندما صلبت طبيعته الإنسانية، لكل مؤمن مسيحى. وقد استتبع ذلك هيمنة الكنيسة الروحية، باعتبارها جسد المسيح، على قدر المسيحى الدينى، وتسلطها السياسي على عالمه الواقعى. ورغم النزعة الإصلاحية لمارتن لوثر، فإن مذهبه اللاهوتي، الذى اعتبر ثورة احتجاجية على السلطة الكنسية، استمر فى تأكيد على مفهوم التبرير عن طريق الإيمان وحده لا الأعمال، حيث البشر عاجزين عجزاً مطلقاً، مهما فعلوا من طيبات، عن المساهمة في تحقيق الخلاص لأنفسهم، ولا سبيل أمامهم سوى الاعتماد الكامل علي رحمة الله ونعمته، فخلاصهم قرين إدراكهم لعجزهم. .. أما الإسلام، فمال إلى المصدر الأول، حيث الطبيعة الإنسانية غير فاسدة من الأصل، وهنا يكمن الفارق الأهم بين الرواية التوراتية ونظيرتها القرآنية لقصة الخلق، فرغم اتفاقهما على كيد إبليس لآدم، وصولا إلى غوايته وهبوطه إلى الأرض، لا يرى القرآن فى عصيان إبليس خطيئة عارضة فرضت منطقها على مسار الخلق الإلهى، فاجأت الله أو خرجت على مشيئته وإن خالفت أمره ظاهريا فقط، ولا فى غواية آدم خطيئة أصلية تطارد النوع الإنسانى إلى الأبد. بل إن عصيان إبليس ليس إلا ذريعة لتبرير وجود الشر فى عالمنا، كما أن غواية آدم وهبوطه إلى الأرض ليست إلا حدثا يدشن الدراما الكونية، ويضفى المعنى على الوجود الإنسانى، كونه حدثا مزدوج الدلالة: فهو فعل ابتلاء واختبار من ناحية. وهو فعل إرادة وتحرر من ناحية أخرى، ما يبقى الإنسان فى الإسلام قادرا على ممارسة الاختيار، ومن ثم تحقيق الخلاص لنفسه عن طريق عمله الأخلاقى، وكفاحه الذاتى، المترتب بالطبع على الإيمان كأصل ونقطة إبتداء، وذلك من دون عناية مؤسسة تتسم بالوصائية، أو قيادة رجال دين يحترفون الكهنوتية. غير أن وقائع التاريخ وحوداثة سارت فى اتجاهات مناقضة لنقطة البدء التى صاغتها العقيدتان التوحيديتان على صعيد العلاقة بين الإيمان والحرية الإنسانية. فبينما جسد التاريخ الغربى صيرورة تحرر من مفهوم الخلاص المسيحى العقيم، إلى مفاهيم حديثة تؤكد الذات الفردية، ومحورية الإرادة الإنسانية، التى تسعى للإرتقاء والتأثير فى العالم بحسب ما وصفه التنويرى جان جاك روسو «قابلية الإنسان إلى الكمال»، نجد أن التاريخ الإسلامى ليس إلا صيرورة عكسية تتنكر للمفاهيم التحررية الأصيلة عن الإنسان الفرد وخلاصه الشخصى، والكامنة فى صلب التنزيه الإسلامى، إلى مفاهيم اتباعية كهنوتية، تخضع الإيمان للتراث، وتصنع من المشايخ المفترض كونهم محض فقهاء، رجال دين ثم يتحولون إلى أوصياء، وهنا يخضع الإيمان للتراث، وتنمو الكهانة ولو من دون كنيسة!. لمزيد من مقالات صلاح سالم