ذات مرة تحدث الروائي والكاتب المسرحي الأمريكي الكبير «أرثر ميلر» فقال، إن العصور تنتهي بانتهاء أحلامها السياسية، وعليه فإنه حال عكس اتجاه العبارة يمكننا القول أن العصور تبدأ كذلك مع بداية أحلامها السياسية، وهو قول يصدق ولا شك علي ما فعله الرئيس السيسي في كلمته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة التاسعة والستين التي عقدت في نيويورك الأسبوع الماضي. لم يكن خطاب السيسي باسم مصر زلغة خشبيةس Langue de bois أي أنه لم يكن حديثا لا يحتوي علي قيمة أو رصيد في الواقع، كما لم يكن خطابا أيديولوجيا موهما وموغلا في الزيف أو الاختبار وراء فلسفة الغموض البناء، تلك التي تحمل المرء الاعتقاد في الشيء ونقيضه مرة واحدة، بل كان خطابا وطنيا باقتدار وعالمي الرؤية بامتياز. علي أن قائلا يقول إن السيسي ليس هو كاتب الخطاب، وعليه فالفضل ليس له، إلا أن هذه فرية مردودة، فالرجل من حيث المبتدأ هو من يعطي لكاتب الخطاب أبعاد الرؤية التي يتطلع إليها في خطابه، ثم وهذا هو الأهم أن «لغة جسد» السيسي أثناء إلقاء الخطاب، كانت تؤكد وبلا حدود إيمانه المطلق بكل كلمة ينطق بها، الأمر الذي انعكس علي سامعيه، ما جعل تصفيق الحضور له ووقوفهم احتراما وتقديرا مشهدا غير مسبوق في صالة الجمعية العمومية، منذ عقود طوال. منذ العام 1989 ورئيس مصر يغيب عن ساحة هذا اللقاء العالمي، وقد كان حضور الرئيس السيسي عود أحمد لمصر، عبر رئيس مثلت كلمته قمة المصالحة مع الذات، دون إظهار عداوات أو إبداء حزازات، بل تسامح وتصالح إلي أبعد حد ومد، لغة صافية راقية، تليق بالفعل بواحد من أبناء شعب مصر العظيم، مهد الحضارة الإنسانية . أول ما يلفت النظر في الداخل المصري، وما جعل جموع المصريين يبيتون ليلة الخطاب في حالة من «الشوفينية» المصرية العالية جدا، قناعة السيسي بأن الشعب المصري هو «القائد والمعلم» الذي يستحق التحية والتقدير، أليس هو الشعب الذي أبهر العالم مرتين، واحدة عندما ثار ضد الفساد وسلطة الفرد، وأخري عندما تمسك بهويته، وتحصن بوطنيته فثأر ضد الاقصاء، رافضا الرضوخ لطغيان فئة باسم الدين؟ قبل سفره إلي نيويورك ارتفعت أصوات عدة تطالب السيسي بأن يلغي الزيارة خوفا علي حياته، لكن بدا واضحا أن الرجل لديه قناعة مطلقة بأن عليه أن يقدم للمجتمع العالمي مصر التي قاد طريقها الجديد، بملامح التنوير لا الاظلام، بطريقها نحو المدنية والديمقراطية، مصر في بعثها الجديد، بعيدا جدا عن مصر المعروفة عبر «كتاب الموتى». ذهب السيسي إلي الأممالمتحدة منتصرا مرفوع الرأس مرتين، مرة عبر انتخابه بملايين من أصوات المصريين ، وبانتصار اقتصادي واضح للعيان، انتصار يمثل قمة الفخار الوطني، يتمثل في قناة السويس الجديدة، هدية مصر للعالم برمته، مصر الواعدة التي نامت كثيرا، وحين استيقظت بدأ وكأنها تأمر الجبل أن ينتقل وينطرح في البحر فيصيخ السمع ويفعل ما يؤمر به.يري السيسي أن مصر لا تفعل ذلك إرضاء لأحد، فقد باتت مصر وبامتياز منذ 30 يونيو دولة «ذاتية الرأس» لا تبعية لها لأحد حول العالم شرقا أو غربا، انما تفعل ما هي فاعلة لتحقيق فلسفة زالعقد الاجتماعيس التي بلورها المفكر الفرنسي الكبير زجان جاك روسوس عبر عقود طوال، عقد للبناء من أجل الأجيال الحاضرة، وللإشراق والاستقلال فيما خص أبناء الغد من المصريين.علي أن مصر الشعب المفطور علي محبة الحرف، وعشق الحرية واحتراف الحضارة، لا تغلق أبوابها أمام العالم، بل إن رؤيتها للعلاقات الدولية، تقوم علي الانفتاح علي الجميع، في احترام متبادل لمبادئ القانون والمعاهدات والمواثيق الدولية، ومراعاة المصالح المشتركة والمنفعة المتبادلة. في فورة الغليان لا ينبغي أن ننجرف، بل واجبنا علي العكس، أن نقوم المشاعر الخاطئة، ونهذب الانفعالات الجامحة، هذا ما لجأ إليه السيسي في نظرته للقارة الإفريقية، فعوضا عن العمق الإفريقي، وجدنا الرجل يتحدث عن التضامن والرخاء الذي يجمع بين شعوبها، كما رأيناه يتحدث بالموضوعية ذاتها عن التحديات التي تواجهها، ما يفرض علي الجميع العمل بمزيد من الجد ووضوح الرؤية لتحقيق طموحات شعوب تلك السمراء في الحال والاستقبال، بوصفنا جزءا منها .أجمل ما في كلمة السيسي، وما مكنه من كسب قلوب الحاضرين هو إغراقه في الوطنية دون تعارض مع العالمية، فقد أظهر ملامح المواطن العالمي، الذي يحمل للبشر ولشعوب الأرض المحبة والسلام، والذي ينشد أن تسود مبادئ الإنسانية وقيم التسامح والعيش المشترك، في زمن قاطعي الرءوس، ومهددي الآمنين. إنها مصر تلك السبيكة الحضارية الإنسانية غير المسبوقة، بهويتها العربية الآنية وجذورها الإفريقية الأصلية، مصر مهد حضارة المتوسط، وحاملة مشعل تنوير الإسلام المعتدل. لم يكن غريبا إذن التقدير العالمي لتلك الكلمة، لقد تحدث السيسي لغة يفهمها العالم الحر الساعي نحو السلام لا الخصام، وقد بلغت عمق أفئدة السامعين وعقولهم لحثها علي الاتفاق عوضا عن الافتراق، لغة طوباوية، قريبة الشبه جدا من اليوتوبية.. إنها بداية عصر سياسي مصري جديد بقيادة رجل يعلم كيف يضع ويموضع الكلمات، تلك التي ينطق بها ليمنطق التاريخ من بعد.. صفحة جديدة من صفحات مصر الولادة. لمزيد من مقالات إميل أمين