البداية كانت حضارية وراقية، تشير إليه بيدك فيتوقف على الفور، تفتح الباب لتجلس بكل هدوء على المقعد الخلفى، وقتها فقط يمكنك أن تفصح عن وجهتك، تمضى بك الرحلة خالية من الزفرات والتنهدات المعبرة عن سخط السائق من ازدحام الشارع أو طول المشوار، فكل شىء محسوب بالعداد، لذا ستغادر السيارة دون أى صوت عال أو مناقشات أو خناقات، لأنك ستجد تكلفة المشوار محسوبة أمامك بالقروش وبالجنيهات... كان هذا مشهد التاكسى الأبيض منذ ظهوره فى مصر قبل سنوات، قبل أن يتبدل به الحال ويعود السائق للتعامل بمنطق الانتقاء والاختيار قبل تحركه لأى مشوار، ويبدأ فى التمرد على تشغيل العداد، أو التلاعب فى حساب الكيلومترات، باختصار التجربة الناجحة دخلت دائرة الفشل وعادت للتعامل مع الزبائن بنفس منطق التاكسى الأسود القديم بالشطارة و الفهلوة .. ربما يتبادر لذهن البعض أن ملامح عدم الانضباط من سائقى التاكسى الأبيض ظهرت بعد رفع الدعم عن البنزين وغلاء أسعاره، فالحقيقة أنه تحققت لهم زيادة عادلة فى البنديرة جعلت البداية بثلاثة جنيهات ثم 140 قرشا لكل كيلو، لكن الشكاوى من تغيير نظام التاكسى الأبيض بدأت منذ عام تقريبا، وكما تقول أسماء مصطفى: كنت أشير لأى تاكسى وأفتح الباب وأركب ثم أخبره عن المنطقة التى أريد التوجه إليها، الآن يتحكم السائق فى إغلاق الباب من الداخل حتى لا تستطيع فتحه إلا بعد أن يعطيك إذن الدخول، ويحدث كثيرا أن تجده يسأل ويحقق ويدقق ثم يبدو وكأنه يفكر قبل أن يتعطف ويومئ لك برأسه بإشارة تفهم منها أنه موافق مضطرا على توصيلك، وتضيف: ما أعلمه أنه وفقا لقانون المرور فإنه لا يحق لسائق التاكسى أن يرفض أى مشوار أو أن يختار المشوار اللى على مزاجه، ولا أعلم سر تعاملهم هكذا إلا بسبب رغبة البعض فى مقاولة الزبون على مبلغ أكبر مما سيقرره العداد. محمد أبو الفتوح يتساءل بغضب شديد: لماذا لا نرضى بأى عمل ينظم العلاقة بين طرفى المصلحة فى مصر، العمل بالعداد كان سببا فى إقبال الناس بشدة على ركوب التاكسى الأبيض حتى ولو وقف طويلا بانتظاره، الأمر الذى جعل سائقى التاكسى القديم ( الأبيض فى أسود ) يغارون ويلجأون لشراء تاكسيات حديثة والعمل بالعداد، بصراحة كنا لا نتناقش مع سائق التاكسى، ولا ندخل فى جدال حول تكلفة المشوار وزحمة المرور وغيرها من الأمور التى غالبا تنتهى بأن يغادر الراكب رجلا كان أو امرأة السيارة مصحوبا بوابل من السباب، بصراحة لا نريد العودة لنظام المقاولة وأسلوب المفاوضات مع سائق التاكسى، يكفى ما نعانيه فى الحياة من مشكلات، لماذا يستكثرون علينا المشوار الهادئ بدون ضرر للزبون ولا ضرار للسائق. اللعب فى العداد ظاهرة أخرى بدأت قبل حوالى عامين، وكان سهلا على البعض أن يلاحظها فى حين لم يستطع البعض الآخر فهمها، فالمشوار هو نفس المشوار ومع ذلك فالحساب يزيد عل المعتاد، تقول نعمة الله: أعتمد كثيرا على التاكسى الأبيض، ولذلك فأنا أحفظ تماما تكلفة رحلتى اليومية من زهراء المعادى وحتى وسط البلد، وأعرف كيف يكون وقت الزحام، ولكننى فى بعض الأوقات أركب التاكسى وما إن أعتدل فى جلستى بداخله وأبدأ فى التطلع للعداد أجده يقفز بأرقام القراءة المترجمة بالجنيهات بصورة غير التى أعرفها، ولما تكرر هذا الموقف اضطررت لمصارحة السائق بشكوكى بعد وصولى لوجهتى وكانت المفاجأة عندما تقبل الأمر بصدر رحب وقال لى: اللى تدفعيه يا مدام، وبالفعل لم أعطه إلا المبلغ الذى أدفعه يوميا. هذه الملاحظات لم تكن فردية إذ أجمع كثير من راكبى التاكسى الأبيض على أن ريبتهم فى تلاعب البعض بالعداد أمر مؤكد مما دعانا للبحث حول نظام ضبط عداد التاكسى الأبيض، وتكلمنا مع أحمد محمد سلاّم صاحب أحد المراكز المخصصة لإصلاح وضبط العدادت، فلم ينكر ما قاله الزبائن وأوضح أنه بالفعل هناك من السائقين من يأتى للمركز طلبا لضبط العداد بشكل يجعله يرمى أكثر من البنديرة المحددة،وهو بالطبع أمر متروك لضمير السائق ولضمير أصحاب المركز، وطبيعى أن يتوجه إلينا سائقو التاكسى لعمل صيانة ووقتها نقوم بإعادة ضبط العداد وعمل سوفت جديد موافق للبنديرة السليمة، لأن هناك برنامجا خاصا معتمدا من المرور نستخدمه، ونقوم بلصق تيكيت باسم المركز على العداد، من مزاياه أنه يمنعه من التلاعب به يدويا، مؤكدا أن صاحب الورشة الذى يتلاعب فى العداد لا يضع تيكيت بعد إتمام عمله، وينصح الراكب عند شكه بوجود تلاعب فى العداد بمطالبة السائق أن يتوجه به لأقرب قسم شرطة، لعمل محضر ( معايرة العداد ) من الجهة المختصة، ونظرا لصعوبة أن يقوم الراكب دائما بهذا الإجراء إما لضيق الوقت أو تجنبا للمشاكل مع سائق شرس مثلا فإنه من المفروض أن يتم تفعيل الرقابة المرورية على سائق التاكسى، فقبل ذلك كنا نجد ضابط المرور يستوقف أى تاكسى، ويركب معه بهدف المراقبة والتأكد من تشغيل العداد وعدم وجود تلاعب به، فمجرد الشعور بعودة الرقابة سيجعل المخالفين يرتدعون. اختيار المشوار تحدثت مع سائقى التاكسى تارة كصحفية وتارة كزبونة عادية، أردت أن أعرف ردودهم على كل اتهامات الركاب، فوجدت بعضها ربما يبدو مقنعا والبعض الآخر ليس كذلك، كان سؤالى لسمير وهو يوصلنى لمحطة مترو جامعة القاهرة، لماذا لا تسمحون للراكب بدخول السيارة إلا بعد أن تعرفوا وجهته وتوافقوا عليها وما هى معايير القبول والرفض لديكم ؟ كان رده: هناك مناطق بعيدة لا أعلمها والسائق لا بد أن يكون عارفا الطريق بل وأكثر من طريق للمشوار الواحد، كما أننى تعرضت مرة لحادث تثبيت عندما دخل بى اثنان من الركاب منطقة نائية، وتم أخذ تليفونى وكاسيت السيارة ونقودى ولولا ستر ربنا كان راحت العربية خالص زى ما حصل مع سواقين كتير، بصراحة ماعادش فيه أمان والواحد لازم يخليه فى المناطق التمام، والمشوار اللى هيجيبلى وجع الدماغ بلاش منه. وكمان أحيانا بيكون السواق عاوز يروح مشاوير طويلة عشان يطلع بمبلغ كويس عشان كده ممكن حضرتك ماتلاقيش حد يوافق يوصلك محطة المترو لأن ده المشوار أبو خمسة أو ستة جنيها. سائق آخر لم يشأ أن يرد على سؤالى البديهى بمجرد أن ركبت وأغلقت الباب : مش مشغل العداد ليه يا أسطى إلا بإجابة واحدة : ادفعى اللى يعجبك وماتزعليش نفسك خالص. سائق ثالث وهذا أصبح شائعا جدا بعد تعديل البنديرة بمجرد أن ركبت قال لى: العداد على قديم، على فكرة ،قالتله يعنى إيه : قال: يعنى تقدرى الفرق، قلت له: وليه نفتح باب التقدير والمقاولة ماانت عندك عداد بتشتغل بيه والناس ارتاحت على كده، رد قائلا: أصلى مش فاضى أروح أضبطه. ما نقلناه من تجارب شخصية ووقائع لمواطنين مصريين وجدوا فى التاكسى الأبيض ملاذا من التعرض لحرق دم أو كلمة تطاول من سائق، لا ينفى أن هناك آخرين فى قمة الالتزام سواء بضبط العداد، أو تشغيله، لكن الخوف من أن المخالفين فى ازدياد، والمؤشرات توحى ببساطة أن التاكسى الأبيض قريبا جدا سيغادر منطقته الآمنة فى المحاسبة بالعداد، متوجها لمنطقة الشطارة والمقاولة، ولسوق الفهلوة، الحل الوحيد ليس أن نراهن على ضمير سائق ولا جرأة راكب بدلا من أن يذهب لعمله يتفرغ لجرجرة سائق التاكسى فى الشرطة والأقسام، الحل الوحيد فى الجهة الرقابية المنوط بها مراقبة أداءالتاكسى، وبدلا من أن نرى الضابط يستوقف السائق للسؤال عن رخصة القيادة والفانوس المكسور نريد أن نراه أيضا يفتش عن العداد المعطل أو المعطوب.