تلح «داعش» بإرهابها، على القاريء العام، لا فى مصر وحدها، بل فى كل بلدان العالم، وتتحول إلى ظاهرة تكفيرية وإعلامية فى آن، وتستنهض أمريكا الهمم فى الدنيا كلها لمحاربة داعش التى لم تتجاوز فى أعلى تقديرات منحت لها ثلاثين ألفا، وتنسى أمريكا لعبتها المفضلة فى اصطناع ظهير رجعى تحتاجه لتناور به شعوبنا البائسة، فتصادر من خلاله العقل العام لمصلحة التكريس للتخلف، وتتجاهل أنها وكل القوى الإمبريالية أسست لعلاقة وثيقة بين الرجعية وقوى الاستعمار الجديد، فى امتداد لما فعلته بريطانيا من قبل حين أمدت الإخوان المسلمين بالمال، ضربا للشعور الوطنى الذى تأجج عقب ثورة 1919، فكان وجود جماعة الإخوان المسلمين صرفا للأمة المصرية عن مشروعها الوطنى آنذاك فى الاستقلال عن المستعمر الإنجليزي، وتأسيسا للوهم المتمثل فى مشروع الخلافة المزعوم، والذى لم يكن سوى مشروع للتجارة بالأوطان قبل التجارة بالدين. أما الأدهى فى الأمر كله فيتمثل فى غض أمريكا الطرف عن إرهاب الإخوان فى مصر، وعلى الرغم من اعترافها المتأخر على لسان وزير خارجيتها جون كيرى - بأن مصر تواجه إرهابا حقيقيا، فإنها أى أمريكا - لم تصنف جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية!!. وبما يجعلنا أمام سياسة عرجاء، تجافى المنطق الاخلاقى، وتسعى خلف مصالحها الخاصة فحسب، متكئة على إرث غبى من علاقات التبعية لها بوصفها القوة العظمى فى العالم!، لكن أمريكا تنسى أو تتناسى أن العالم قد طاله شيء من التغير، وباتت مسألة القطب الأوحد محل شك وتساؤل دائمين، مع استعادة قوى عظمى بعضا من مكانتها الدولية «روسيا» وتمترس قوى عظمى فى مكانها اللائق «الصين» والأهم أن المتغير الداخلى وعوامل القوة الذاتية للمصريين لا تدفع سوى فى سياق واحد، وأعنى به الإيمان العارم بحتمية استقلالية القرار الوطنى المصري، والذى كان هدفا خالصا من غايات ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة. يخلق الغرب الاستعمارى نماذجه الرجعية والمتواطئة مع مشروعه فى آن، ويقدم لها المال والسلاح، وتتحول هذه التنظيمات الإرهابية إلى شوكة فى ظهورنا نحن، فتقتات على دماء الأبرياء من شعوبنا العربية، وتحيل حيوات الناس إلى جحيم، ويصبح القتل شريعتها المقدسة، والحرب على الهوية غايتها المركزية، فتقوم داعش على سبيل المثال بتهجير المسيحيين فى العراق وتخييرهم بين القتل أو اتباع الخليفة المزعوم، وإمعانا فى القمع الدينى تحصد الرءوس، ساعية لإشعال حرب على الهوية، والتى تعد بمنزلة الغاية الخالصة لعالم رأسمالى قح، استعماري، وناهب للثروات، ينتظر متربصا - الغنيمة القادمة فى شعوبنا العربية، وتتحول هذه التنظيمات المتطرفة إلى مخلب قط لا أكثر ولا أقل، تؤدى دورا وظيفيا محددا، وحينما ينتهى دورها تأتى المواجهة مدفوعة الأجر، انتظارا لدور جديد، ولتنظيم جديد أو لصنيعة جديدة بالأحرى - من صنائع الأجهزة الاستخباراتية العالمية. أما التنظيم الأم «المفرخة» والذى خرج من رحمه - ولا يزال - كل التنظيمات الإرهابية فى العالم، وأعنى به تنظيم الإخوان ، فهو فى مأمن تام، وعلى وفاق كامل مع قوى الاستعمار الجديد، وأمريكا لم تعترف بالإخوان تنظيما إرهابيا، وتلكأت بريطانيا فى اعتبار الجماعة الإرهابية هكذا، وبما يعنى أن هناك رغبة عارمة لدى قوى الاستعمار العالمى فى الإبقاء على حلفائهم الرجعيين من جهة، وبما يعنى تصديرا لقيم التخلف لعالمنا العربى طيلة الوقت، وأن ثمة محاولة لتصدير التوتر والخلاص من إشكاليات الإرهاب وأجنحته المتشددة على حساب شعوب المنطقة العربية من جهة ثانية. ووفق هذا الفهم لن تندهش عزيزى القاريء حينما تجد دفاعا مستميتا من أنصار الإخوان على مواقع التواصل الاجتماعى عن داعش، وإبرازهم كذبا وزورا - فى ثوب المدافعين عن السُّنة فى العراق وسوريا، إحياء لنعرات طائفية دينية، تعيد للأذهان الرغبة الإمبريالية فى إحداث صراع سني/ شيعى فى المنطقة، بأى طريقة، وبأى ثمن. والحقيقة التى لا مراء فيها أن داعش والإخوان وجهان لعملة واحدة، وكأنهما (ملك وكتابة)، وأن بين الإخوان وداعش والسلفيين قواسم مشتركة، ومطامح بائسة تنطلق جميعها من أفكار ماضوية، بطلها سيد قطب، مُنظر التطرف فى الجماعة، وكتابه التكفيري: «معالم فى الطريق» فهؤلاء جميعهم ينطلقون من أن الحاكمية لله، ومن ثم تسقط كل الدساتير والقوانين الوضعية، ويعتقدون فى قسمة البشر بين فسطاطى الإيمان والكفر، ولذا نجد سيد قطب يخرج كل من سواهم من حيز الإسلام، حتى لو صلى وصام وحج أيضا، كما تسيطر عليهم جميعا أوهام الخلافة المزعومة، ويختلفون فقط فى الإفصاح عن هذا كله، تبعا لتصور كل فصيل منهم عن وقت «التمكين» وآلياته، وتصبح فكرة المواطنة لديهم فكرة عبثية، فالمسلم الماليزى أقرب لديهم من المسيحى المصري!، والمحصلة النهائية بشر لا يؤمنون بفكرة «الوطن» بل ويسارعون فى العصف به، وبقيمته، على نحو ما صنع مرشدهم السابق فى حواره الذى قال فيه جملته الخائنة «طز فى مصر» والتى دفع ثمنها هو وجماعته فيما بعد، فمن لا يدرك قيمة بلد يحمل تراكما حضاريا متنوعا، لن يستحق سوى الذهاب فى سلال التاريخ المهملة، يحاصره العار، والخزي، وتلحق به لعنة الأجداد الأبدية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله