صور| وفاة أم حزنا على دخول ابنها في غيبوبة بعد تعرضه لحادث سير بطنطا    ننشر التفاصيل الكاملة للقاء المشترك بين مصلحة الضرائب واتحاد الصناعات    إسرائيل تقصف شحنة أسلحة تابعة لحزب الله    سعيدة نغزة تعلن ترشحها للانتخابات الرئاسية المقبلة بالجزائر    عاجل - مباشر حالة الطقس اليوم × الإسكندرية.. كم درجات الحرارة الآن في عروس البحر؟    عيد الأضحى 2024.. الإفتاء توضح مستحبات الذبح    هل يجوز الاضحية بالدجاج والبط؟ عالم أزهري يجيب    مصطفى كامل يتعرض لوعكة صحية خلال اجتماع نقابة الموسيقيين (تفاصيل)    بعد إصابته ب السرطان.. دويتو يجمع محمد عبده مع آمال ماهر في مكالمة فيديو    اندلاع مواجهات بين شبان فلسطينيين والاحتلال في بلدة أبو ديس شرق القدس المحتلة    زيلنسكي يصل إلى برلين للقاء شولتس    احتفالا بعيد الأضحى، جامعة بنها تنظم معرضا للسلع والمنتجات    عيد الأضحى في تونس..عادات وتقاليد    إيلون ماسك يهدد بحظر استخدام أجهزة "أبل" في شركاته    التجمع الوطني يسعى لجذب اليمينيين الآخرين قبل الانتخابات الفرنسية المبكرة    عمرو أديب: مبقاش في مرتب بيكفي حد احنا موجودين عشان نقف جنب بعض    أيمن يونس: لست راضيا عن تعادل مصر أمام غينيا بيساو.. وناصر ماهر شخصية لاعب دولي    ضياء السيد: تصريحات حسام حسن أثارت حالة من الجدل.. وأمامه وقتًا طويلًا للاستعداد للمرحلة المقبلة    زكي عبد الفتاح: منتخب مصر عشوائي.. والشناوي مدير الكرة القادم في الأهلي    صحة الفيوم تنظم تدريبا للأطباء الجدد على الرعاية الأساسية وتنظيم الأسرة    رئيس هيئة ميناء دمياط يعقد لقاءه الدوري بالعاملين    محافظ أسيوط يناقش خطة قطاع الشباب والرياضة بالمراكز والأحياء    بعد 27 عاما من اعتزالها.. وفاة مها عطية إحدى بطلات «خرج ولم يعد»    تراجع سعر الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الثلاثاء 11 يونيو 2024    مصر ترحب بقرار مجلس الأمن الداعي للتوصل لوقف شامل ودائم لإطلاق النار في غزة    إنتل توقف توسعة مصنع في إسرائيل بقيمة 25 مليار دولار    تعليق ناري من لميس الحديدي على واقعة تداول امتحانات التربية الوطنية والدينية    عيد الأضحى 2024.. إرشادات هامة لمرضى النقرس والكوليسترول    الحق في الدواء: الزيادة الأخيرة غير عادلة.. ومش قدرنا السيء والأسوأ    مختار مختار: غينيا بيساو فريق متواضع.. وحسام حسن معذور    وزراء خارجية بريكس يؤيدون منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة    تحذير عاجل ل أصحاب التأشيرات غير النظامية قبل موسم حج 2024    مجموعة مصر.. سيراليون تتعادل مع بوركينا فاسو في تصفيات المونديال    «جابوا جون عشوائي».. أول تعليق من مروان عطية بعد تعادل منتخب مصر    إخماد حريق داخل حديقة فى مدينة 6 أكتوبر دون إصابات    مصرع سيدة صدمتها سيارة أثناء عبورها لطريق الفيوم الصحراوى    «اختار الأهلي».. كواليس مثيرة في رفض حسين الشحات الاحتراف الخليجي    أحمد كريمة: لا يوجد في أيام العام ما يعادل فضل الأيام الأولى من ذي الحجة    رئيس خطة النواب: القطاع الخاص ستقفز استثماراته في مصر ل50%    قصواء الخلالي: وزير الإسكان مُستمتع بالتعنت ضد الإعلام والصحافة    خبير اقتصادي: انخفاض التضخم نجاح للحكومة.. ولدينا مخزون من الدولار    إبراهيم عيسى: طريقة تشكيل الحكومة يظهر منهج غير صائب سياسيا    هل خروف الأضحية يجزئ عن الشخص فقط أم هو وأسرته؟.. أمين الفتوى يجيب (فيديو)    منتخب السودان بمواجهة نارية ضد جنوب السودان لاستعادة الصدارة من السنغال    وفد من وزراء التعليم الأفارقة يزور جامعة عين شمس .. تفاصيل وصور    مفاجأة في حراسة مرمى الأهلي أمام فاركو ب الدوري المصري    بالصور.. احتفالية المصري اليوم بمناسبة 20 عامًا على تأسيسها    «أونلاين».. «التعليم»: جميع لجان الثانوية العامة مراقبة بالكاميرات (فيديو)    إصابة 4 أشخاص في حادث انقلاب أتوبيس بالمنوفية    هل تحلف اليمين اليوم؟ الديهي يكشف موعد إعلان الحكومة الجديدة (فيديو)    وزيرة الثقافة تفتتح فعاليات الدورة 44 للمعرض العام.. وتُكرم عددًا من كبار مبدعي مصر والوطن العربي    عالم موسوعي جمع بين الطب والأدب والتاريخ ..نشطاء يحييون الذكرى الأولى لوفاة " الجوادي"    أخبار 24 ساعة.. الحكومة: إجازة عيد الأضحى من السبت 15 يونيو حتى الخميس 20    الرقب: الساحة الإسرائيلية مشتعلة بعد انسحاب جانتس من حكومة الطوارئ    منسق حياة كريمة بالمنوفية: وفرنا المادة العلمية والدعم للطلاب وأولياء الأمور    إبراهيم عيسى: تشكيل الحكومة الجديدة توحي بأنها ستكون "توأم" الحكومة المستقيلة    هل يجوز الأضحية بالدجاج والبط؟.. محمد أبو هاشم يجيب (فيديو)    وزير الصحة: برنامج الزمالة المصرية يقوم بتخريج 3 آلاف طبيب سنويا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة فى دفتر أحوال العشق الطارئ
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 09 - 2014


أهلا يا أنا
« الحب ببساطة هو بوابة الجنون التي تمنحنا قدرة إحتمال سخافات مدمني توزيع القهر والظلم على عموم عشاق الحياة »
ما أن يطل سبتمبر حتى أخلع عني زهق أيام الصيف، لأستلقي على شاطئ البحر وأقرأ المكتوب في بطن كل موجة من الأمواج المتلاحقة، حيث تحكي الكلمات عبر موسيقى التتابع ما جرى في أيام العمر.
وتتقلب أحلام النقاء المتأرجحة مع وقائع إفتقاد البراءة؛ فتعلو الموجة لأقرأ في بطنها الأزرق تذكارتي ، وأشهد في بطنها الأزرق المؤطر بحدودها البيضاء وجوه من أحببت.
وهاهو بطن موجة يصور لي محطة قطار «جاردنور» المزدحمة دائما بالمسافرين من باريس إلى خارجها ، وجهتي هي مدينة «بربينون» على الحدود الفرنسية الأسبانية ، وكما هي العادة رأيت خيالي وهو يقدم بضعة سحابات بيضاء كأنها قطع قماش مهمتها إزالة الغبار عن الشمس ، فيزداد ضوء الشمس وضوحا ، ويتألق الصفاء؛ ليسبح قلبي في فرح مزدحم بالشجن، لأن القطار يتحرك إلى مأوى جارثيا لوركا الشاعر الذي أحببته وقادني إلى أشعاره إثنان يجيدان شجن الأمل الصاعد ، وأولهما هو سيد الشجن الحزين صلاح عبد الصبور ، الذي كنت أول من استمع إلى أبيات قصيدته في خريف 1959 ، حين دخل صباحا إلى مبنى روز اليوسف المتهالك ، ليقرأ لي قصيدته :
« هذا زمان الحق الضائع
لايعرف مقتول من قاتله
فرؤوس الحيوانات على جثث الناس
ورءوس الناس على جثث الحيوانات
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك .
والشاعر الآخر هو عبد الرحمن الأبنودي هذا الفرع لعود ورد بلدي خرج من قلب قنا ليهدينا خلاصة الشجن المشحون بالأمل القادر على قهر الأسى ، ليجلس بجانبي مرتلا :
أنا كل ما أقول التوبة .. ترميني المقادير . وحشاني عيونه السودة ومدوبني الحنين .
تختلط كلماته بأغنية بصوت شادية « آه يا أسمراني اللون حبيبي الأسمراني « ، ليقفز بيت شعر أهداه لي بمقدمة يقول فيها :إلى م. ع. الذي يعانق القوة في قاع الضعف»، وليوجز فترة من أيام العمر بالقول «سهلة الإدانة على اللي مش قد السكك » ، كان عبد الرحمن يعلم أني أكره المشاركة في دوامات الرغي السياسي ، ويعلم أني أقدس دوران أيامه كأنه محراث بشري في صعيد مصر لا بحثا عن أغانيه ، فكلها مخزونة في قلبه، ولكن بحثا عن جذور السيرة الهلالية ، وكنت أهتز بعشق خلاب لغناء محمد رشدي الذي يقلب أيام عمري بحثا بيت صغير يسع أحلام العمر « بيتنا الصغير الأخضراني .. أبو الستاير برتقاني «.
أما وفائي للوركا المعشوق منا صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الأبنودي وأنا ، فقد أوجزت هذا العشق في العشرين يوما التي سرت فيها كل مساء باريسي لمشاهدة مسرحيته « الزفاف الدامي » ، حيث كنت أمضي من الحي السادس عشر حيث أسكن في أفقر فندق بحي الأثرياء الباريسي « فندق فلوريد » بشارع « قديس الرب »لأ صل إلى المسرح الواقع أسفل هضمة مونماتر، وتأتي معي أغلب الأحيان جارتي فيرجينا ، الأمريكية البيضاء ذات الأنوثة الوارفة والتي اكتشفت في رجولة مدرس أفريقي طاقة عشق لا نهاية لها ، فغادر الاثنان الولايات المتحدة ليعيشا في باريس ، وليمارس ميشيل الأسود تعليم قيادة السيارات ولتحيا فرجينيا على صناعة البلوفرات الصوف ، و تبيعها بأثمان مرتفعة لأن الغزل اليدوي في باريس له سعر يفوق الملابس الجاهزة . وبطبيعة الزمن لم يكن لأمريكية بيضاء عام 1965 أن تعشق زنجيا ، فالبيض يتأففون من السود ، والسود ينظرون إلى البيض كأنهم آلهة ، فكيف جمع الحب بين غادة بيضاء وعاشق أسود؟
وكنا حين ندلف إلى المسرح نجد لافتة تذكرنا بأن خلفنا ثماني سنوات على تلك الفرقة التي تعرض مسرحية» الزفاف الدامي» بممثلين وممثلات أسبان ، جاءوا إلى باريس هربا من القاتل فرانكو، هذا الذي هزم فكرة الجمهورية وتعاون مع هتلر وموسيليني وإمبراطور اليابان لقتل حق التعبير ، وبعد نهاية الحرب العالمية احتفظت به الولايات المتحدة على رأس حكم أسبانيا ليبدو كمنظار لها على أفريقيا وأمريكا اللاتينية المتحدثة بالأسبانية.
قصة الزفاف الدامي تبدأ حين تنضج أنوثة عذراء؛ فيتم عرضها في سوق الزواج ، ليأتي العريس بقواعد العقل وعلم الحساب ، كم يملك ؟ هل سيحسن معاملتها ؟ . وتقيس أسرة العريس حسب ونسب العروسة، وهل صحتها قادرة على إنجاب أحفاد ؟
في سوق الزواج هناك دراسات مبدئية لها علاقة بالمال والمكانة وليس لها علاقة بحديث القلب . تنظر والدة العريس الطيب زارع القمح في جسد العروس لتراها مهرة سيقفز بها ابنها فوق حواجز الزمن بمزيد من الإنجاب ، وليستمر خلود العائلة .
وأثناء رحلة دفع العروس إلى بيت الزوجية ، يقع هذا الحادث الغريب ، حين تلتقي عيونها بعيون فارس يتنقل على صهوة حصانه باحثا عن خلاص من سجن قضبانه غير مرئية ، فقد سبق أن ساقوه قديما ليضعوه على نفس ميزان الثروة والمكانة وأقنعوه بالزواج من امرأة ملول ، تهبه بعد تسعة أشهر ابنا سيتم سوقه ذات يوم مستقبلي إلى نفس المصير . لكن ما أن تلتقي عيون الفارس بعيون العروس حتى تمتد بينهما كهرباء التواصل التي لم يعرف العلم حتى كتابة سطوري تلك فهما لها . قيل لي عبر سنوات كثيرة أن أسباب ميلاد الحب بجاذبية لا نهائية هو أمر غير معروف. وأقسم أني حضرت أنا كاتب السطور عشرات المؤترات العلمية التي ناقشت ميلاد الحب ، وكنت أسمع وأشهد وأنقل وأكتب ، لكن تظل لكل قصة حب قانونها الخاص .
الآن وأنا راقد على رمال الشاطئ ووجهي يتابع ما أقرأ في بطن الأمواج ، تنفجر مشاهد قصة الحب في مسرحية الزفاف الدامي للشاعر جارثيا لوركا، فأصدق فقط أن العاشقة والعاشق وجدا نفسيهما أمام حقيقة هي ضرورة أن يعيشا معا ليذوب أي منهما في الآخر . فتهرب العروس بثوب الزفاف ليعيش العاشقان عناقا لا يفصل بينهما سوى سكين الزوج الذي قبل منطق الصفقة ووزنتها له أمه كأداة لميلاد أطفال . ولم ينتبه هو إلى أن العشق الطارئ هو من قلب اللعبة ، فقد أجبرتها أنوثتها على السفر للإرتواء من فيضان هذا النهر الشرس.
تلعن أم العريس كل سكاكين الأرض التي يتقاتل بها الشباب صراعا على الحب ، وتلعن مربية العروس كل تقاليد لا تضع في الاعتبار حق المرأة في أن تكون عاشقة.
................
ما عشته في مدينة بيربينيون الفرنسية أستعيد رؤيته في بطن موجة أخرى .
كنت أفكر في عاشق أسبانيا المولود في تشيلي . بابلو نيرودا الذي عاش عذابات القرن العشرين وأشواق إقامة العدل ، واكتشف موهبته أثناء دراسته الجامعية ، وكيف بدأ مشوار عمره بحثا عن تجربة تتحول إلى قصيدة .
قرأت في العام الماضي مذكراته التي أنقذتني سطورها من غباء التوتر الصاعق الذي أعيشه كواحد من سكان القاهرة . فرحت بما عرفته من تفاصيل عمره حيث قابل كل من أحببتهم من شعراء وفنانين .
اكتشف حقيقة أنه شاعر من تجربة حب ، ولعل الموهوب في هضم اللغة الأسبانية ماهر البطوطي قد كشف لنا عبر ترجمته لدوانين من أشعار نيرودا الكثير عن صدق الشاعر الذي رأى في جسد المرأة لحظة العطاء قمة الروحانية ، وأن جسد الرجل أثناء الحب هو فراشة تحمل روحه إلى الجنة . ولعل أهل أمريكا اللاتينية ومنهم نيرودا يعتبرون الحب هو بوابة الجنون التي تمنحنا محبة الحياة والقدرة على تحمل ركاكة الحادث على مسرح توزيع الأطماع بين الأقوياء الذين لا يشبعون من إستنزاف الغير ، وبين عجز أهل الشوق إلى العدل عن التأثير على ساحة السياسة ، فتشيلي المولود فيها نيرودا هي موطن النحاس والبارود ، وكلاهما يخضع لشركات أمريكية ، وكما سبق ومارست قهر وقتل الهنود الحمر ، هاهي قد ورثت لعبة استنزاف شعوب أمريكا الجنوبية ، فباعت فكرة الديمقراطية في سوق النخاسة ، حيث تلعب الكلمات دور البريق على أفواه اللصوص ، لتسرق قلة أعوام ومستقبل فقراء بلا حصر. ويتعرف الشاعر على حقائق استنزاف بلاده أثناء الدارسة الجامعية.
أما كيف يمكن احتمال الحياة تحت القهر، فذلك له طريق السياسة ومحاولة تغيير الواقع بالثورة . وفي الطريق إلى الثورة يتم إلقاء بالونات تبدو عذراء ، لكن كل بالونة منها هي عاهرة محترفة ، وأكبر بالونات القرن العشرين هي بالونة الديمقراطية الشكلية والتي تخفي وراءها ديكتاتور يعمل مندوبا عند سادة لا نراهم ، ولا يسأل واحد من تلك الأصوات الزاعقة بنداءات الديموقراطية عن كيفية حصول الجائع العاري الذي لا مأوى له على حقه في تعليم وصحة ورقي اقتصادي . وكان عالم النفس المصري صلاح مخيمر قد أعلن أمام مؤتمر مصري لمناقشة المستقبل « إن الحرية والديمقراطية هما أكثر الكلمات التي تعرضت للتدعير في القرن العشرين « وكان الرجل على حق ، وهو ما اكتشفه نيرودا عبر مسيرة التعلم واقتحام الحياة بعيدا عن الأسرة ، فيذهب ذات مساء لرؤية أناس يغوصون في العمل ليل نهار في مزارع الغير ليحصد الثري دولاراته . وعندما يصيب الإرهاق الجميع ينام الشباب فوق أكوم التبن ، فتأتي مليحة ترغب في الحياة لتجرب عناق نيرودا . وتهبه لحظات من سفر إلى إطمئنان شديد الخصب .
وأثناء وجوده بحثا عن مستقبله في عاصمة بلاده يسكن مع الجوع والفاقة داخل جماعة من الحالمين الذين ركبهم عفريت البحث عن تغيير الكون بالشعر . ويتعرف على أرملة لكاتب كان سيصبح مشهورا ، وكانت الأرملة أيضا كاتبة . ولأن الموت بمرور الوقت يدفع الأنوثة والرجولة إلى البحث عن استمرار الحياة ، لذلك لم يصمد نيرودا أمام غواية التجربة . لكنه يهرب لأن الجوع والفاقة في حياة شاب يمكن أن يسيرا به إلى نوع من مرض الرئة وكان واحدا من أشهر أسباب الموت المبكر حتى منتصف القرن العشرين ، ويعترف نيرودا أن طيف فيضان أنوثتها لا يغادره . أضحك حين واصلت لقراءة تجربة نيرودا متذكرا ما قالته جدتي لأبى وكانت فلاحة شديدة المراس قوية الشكيمة تحكم زوجها المزواج فتجعله يدور حول نفسه ، حتى بعد أن كذب عليها وادعى في أوائل القرن العشرين أنه اشترى جارية من أرتيريا كي يستعيد حيويته ، فألزمتها عدم الإقتراب منه إلا لخدمته كعاملة في البيت . أضحك لقول عمتي عن النساء بعد إنقضاء ليالي العزاء في أي فقيد ، كانت العمة تحكي عن أن العائدات من المقابر ينطلق في داخل أي منهن عفريت الرغبة في التواصل ، وكأن مهمة الأنوثة أن تقاوم الموت بإعادة الميلاد . كانت العمة تقول ذلك تعليقا على ما حدث من خياطة القرية التي مات زوجها منذ أربعة شهور ونصف، وفوجئ أهل القرية بان الخياطة ذهبت إلى مأذون القرية وهي تصحب في يدها خطيب إبنتها لا ليعقد قرانه على ابنتها ، ولكن لتتزوجه هى ، لتصاب الابنة بالجنون ، ويدورون بها على الموالد والمشايخ والأضرحة بلا طائل . إلى أن تقوم الخياطة ذات صباح فلا تجد الزوج الشاب ولا الإبنة التي قيل أنها ممسوسة . ومازالت الخياطة حتى بعد مرور عشرين عاما على هذا الحادث وهي تبحث عن الإبنة والزوج إلى أن عاد أحدهم من العراق ليؤكد للخياطة أن ابنتها والزوج قد قتلا أثناء اجتياح بغداد .
................
وتأتي موجة بحر أخرى لأقرأ في بطنها كيف حملني الصيف اشتعل بحرارة مايو قديم أهوج ، وزادت حرارته بفعل الشوق إلى الحلوة المكتملة التي قامت باختراق قلبي لتعيد تشكيله على هيئة ملامحها .
ولأرى بعيون الخيال ماحدث حين دق التليفون في البنسيون القاهري الذي كنت أقيم فيه لأجد صوت سكرتير السيد «أحمد فؤاد» المدني الوحيد في تنظيم الضباط الأحرار ، وهو من أوكل له جمال عبد الناصر رئاسة «بنك مصر» ومؤسسة» روز اليوسف في الزمن القديم ،» . طلب مني السكرتير الإسراع للقاء أحمد فؤاد. أسرعت لأجد الرجل يستقبلني بجملة واحدة : من حقك أن تختار طريقة الشكر المناسبة على نشرك لمذكرات الفنان سيف وانلي على صفحات روز اليوسف ؛ فقد أجدت التعبير عن هذا الرسام المصور الذي لم يحصل إلا على الشهادة الإبتدائية وعلم نفسه بنفسه الإنجليزية والفرنسية فضلا عن اتقانه لموهبة رسم لوحات على غير مثال من فرط ارتباطها بالموسيقى . قلت بسرعة : ليست هناك طريقة للشكر أفضل من تذكرة طائرة ذهاب وعودة إلى باريس ، وثمنها هو أربعة وثمانون جنيها فقط لا غير .
ضحك الرجل وأشرف بنفسه على استخراج تذكرة السفر واستئذان مكتب الرئيس عبد الناصر كي أحصل على تأشيرة خروج ، ففي ذلك الزمن لم يكن يكفي أن تحصل على تأشيرة دخول إلى البلد الذي تسافر إليه ، بل لابد من تأشيرة خروج من مصر .
ولن أنسى أبدا ملامح رجل الشرطة الذي كان مسئولا عن مكافحة التنظيمات اليسارية في مصر ، وأتذكر أن اسمه « حسن المصيلحي » ، وكان عبد الناصر قد نقله إلى مصلحة الجوازات ، وهو من أمسك بجواز سفري، وهو يكرر لعناته لكل رموز اليسار المصري ، واتصل تليفونيا بجهة لا أعلمها ، ليتلقى منها الأمر بضرورة ختم جواز سفري بتأشيرة الخروج . وقال لي يومها « هذه أيام أهل اليسار . مبروك لك ، على الرغم من علمي أنك لا تنتمي إلى أي تنظيم ، لكنك بشكل أو بآخر متعاطف مع اليساريين » . قلت بجدية شديدة: وهل تتوقع من أي كاتب أن يكون متعاطفا مع الأمريكان الذين يقومون بإذلالنا ، مرة برفض تمويل السد العالي ، وثانية بتأييد إسرائيل عمال على بطال ؟ ثم أنا ذاهب إلى باريس من أجل .. « ولم يتركني الرجل لأكمل كلماتي ، بل قال « هي مكافأة لك طلبتها بنفسك من رئيس مجلس إدارتك لتعيش كما تهوى ، ولا تنسى رؤية أهل اليسار في باريس لتري هزائمهم ، قلت سينتصر العدل في زمن قادم . قال الرجل : سيحدث هذا في المشمش . وضحكت قائلا « سيكون هناك موسم لمشمش يأكله أهل اليمين ، وموسم مشمش آخر سيأكله أهل اليسار . قال الرجل المقهور: لا تنسى البحث عن كتابات مجانين يتوهمون بقدرتهم على هزيمة أمريكا ، لكنها ستهزمهم جميعا «.. قررت أن أغيظه : فقلت المفكر اليساري شهدي عطية رغم موته على أيدي زملائك إلا أنه أعطانا كتابا يشرح حقيقة أن جيلك لا مكان في مستقبل هذا البلد. ورد على قولي سوى بسباب أهل اليسار وروز اليوسف بأجمعها . وللأسف لم يعش الرجل ليرى كيف قتل كسينجر الأمريكي ،سلفادور ألليندي الذي قام بتأميم شركات إستخراج النحاس في تشيلي ، وكان الليندي هو من وصل إلى قمة الحكم بالديمقراطية الفعلية ، ولم يعش المقهور رجل الأمن ليرى كيف أنقذت تشيلي نفسها من جديد ، صحيح أن نيرودا مات ولكن أشعاره التي قدست الحرية مازالت ترفرف في سماوات أمريكا اللاتينية .
................
رأيت زهورا عارمة الجمال تنمو في بطن موجة أخرى قادمة إلى البحر الذي أرقد على شاطئه وقلت «آآآه « لتذكاراتي التي لا تمل من عزف موسيقها في خيالي ؛ وأسمع دقات قلبي كأنها فراشات الحلم بميلاد كون جديد غير مرتبك كالكون الذي نحياه .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.