دقق بتمعن وتجرد فى خلفيات ومسببات أزماتنا المستعصية، ابتداء من الكهرباء والمياه، وانتهاء بسوء وتردى أحوال وسائل مواصلاتنا العامة وطرقنا المتهالكة, حيث نخسر سنويا 15 مليار جنيه جراء حوادث الطرق، لتعرف عن قرب وتتأكد أن المسئول الأكبر عن حدوثها وتفاقمها، هو غياب الصيانة، فتلك هى الفريضة الغائبة عن بلادنا، منذ سنوات خلت بدون أن نتمكن من مواجهتها، وايجاد الحلول الجذرية الناجعة لها، حتى لا تصبح سيفًا مسلطًا على رقابنا طوال الوقت، وتعوقنا عن التقدم للأمام. فنحن لا نكف عن الإشارة إلى هذا العيب المزمن، كلما حلت بنا كارثة بين الحين والآخر، لكن الإشارة والتذكير لا تتبعها استجابة تبشرنا بسيرنا على الطريق الصحيح للتغلب عليه وهزيمته هزيمة نكراء لا تجعله يطل برأسه ثانية، وآن الأوان لوضع حد له دون تباطؤ وتلكؤ. فمرافقنا تنهار وتتداعى تباعا وبوتيرة متسارعة تفوق الوصف لعدم الاعتناء بصيانتها، وليس مرفق الكهرباء حيث توجد محطات لم تمتد إليها يد الصيانة منذ 20 عامًا سوى شاهد على هذه الحقيقة المرة المفزعة، وكان المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء، صريحًا وصادقًا عندما أبدى أمس الأول فى تصريحات ل «الأهرام» مخاوفه من تصدع وتهاوى مرفق مترو الأنفاق، بسبب اهمال عمليات صيانته، وقال بالنص : «أنا خائف على المترو الذى لم يخضع للصيانة منذ إنشائه فى ثمانينيات القرن الماضى». لاحظ أننا نتحدث عن مرفق حديث العهد نسبيا، فما بالك إذا تكلمنا عن السكك الحديدية ثانية اقدم سكك حديد فى العالم بعد بريطانيا، وكانت فى الزمن الغابر درة على جبين وطننا، أو مؤسساتنا العريقة كمجمع التحرير وبعض الوزارات التى تشغل مبانى تعد فى حد ذاتها تحفا معمارية لا مثيل لها ويستحيل تعويضها، فوضعها بائس بالمعنى الحرفى للكلمة، وأهدرنا قيمتها التاريخية، بل إن الخراب طال العديد منها، وباتت مثالا حيا على الغفلة وسوء التقدير والتعامل مع تراثنا المفترض أنه مكون أصيل من مكونات هويتنا الوطنية. وأكاد أجزم بأنه لا يوجد بند فى ميزانيات وزاراتنا للصيانة، فهى كم مهمل، فى حين ننفق ملايين الجنيهات على شراء مايلزم وما لا يلزم، وإقامة الولائم والحفلات، وتغيير أثاث مكاتب كبار المسئولين والمرضى عنهم من جيوش المستشارين. فالخسارة الناجمة عن غياب الصيانة بالغة الخطورة على حاضرنا ومستقبلنا، فنحن نفقد ممتلكاتنا العامة التى تعد ثروة نفيسة تحافظ عليها الدول بكل ما أوتيت من قوة ولا تتهاون فيها مهما كانت الظروف والأسباب، ويكفى للتدليل على ذلك القيام بزيارة خاطفة لوسط البلد، لترى بعينك كيف طغى القبح على مبانيها الجميلة، بعدما كانت قبلة لكل باحث عن الجمال والرقى والابداع المعمارى. نخسر أيضا قطعة عزيزة من تاريخنا القديم الذى نحصل بواسطته على العملة الصعبة، فالسياحة عماد نشاطنا الاقتصادي، خذ مثلا ما آل إليه حال تمثال أبى الهول، احد معالمنا الحضارية البارزة، الذى لم نتعهده بالرعاية والترميم إلا قبل أيام قليلة، وبالتأكيد فإنه أصبح فى حالة يرثى لها، ولن تعيد عمليات تجميله إليه نضارته ورونقه. وتحضرنى هنا قصة محزنة ومؤسفة، حينما زرت منطقة الاهرامات، ودخلت إلى متحف مراكب الشمس، لأشاهد مدى ما أصابها من ترهل وتصدع ولم نفكر فى حمايتها بجهودنا الذاتية إلى أن قدمت اليابان منحة لإنقاذها من التحلل والتفكك . غياب الصيانة يدمر كذلك قلاعنا الصناعية الكبري، عندك صناعة الغزل والنسيج، ومعها الحديد والصلب، بعدما كانا من أسس منعة اقتصادنا الوطني، والقدرة على مواجهة التحديات والأزمات بصرف النظر عن صعوبتها. واحزن معى وأنت تقرأ هذا التصريح الطازج الصادر مساء السبت الماضى على لسان نور عبد الصمد مدير التوثيق الأثري، وحذر فيه من أن هرم زوسر المدرج مهدد بالخروج من قائمة منظمة اليونسكو للتراث الحضارى لماذا؟ لأنه تم إسناد مهمة ترميمه إلى شركة مصرية غير متخصصة فى مجال ترميم الاثار، فماذا كانت النتيجة؟ تساقطت أحجاره من الداخل، بعدها جرت الاستعانة بشركة أجنبية بدورها وللعجب غير متخصصة فى ترميم الاثار، ولتزيد الطينة بلة شوهت الهرم بإضافة أحجار خارجية، ومن ثم فإنه مهدد بمغادرة قائمة التراث الحضاري، ما هذا الاستهتار واللامبالاة والعبث بميراث اجتهد الأجداد وضحوا من أجل تشييده، فإذا بالأحفاد يهدرونه ويفرطون فيه بهذه السهولة والرعونة. إن اضفنا لما سلف منظومة الرى التى تلاشت ليس لإهمالها فقط، وإنما لسلوكنا غير القويم بتعمد تحويل الترع والمصارف لمقالب قمامة كبيرة، ثم نصرخ ونتباكى على اضطرارنا لرى المحاصيل الزراعية بمياه الصرف وما يستتبع ذلك من تفشى الأمراض والأورام بين آلاف المصريين سنويا، وبالنسبة لمدارسنا الحكومية فإن حالها مأساوي، نظرا لعدم صيانتها بالشكل اللائق الذى يحترم آدمية التلاميذ وأولياء الأمور الذين لا يملكون سوى كظم غيظهم، مراعاة لمصالح أولادهم. ما السبيل إذن لجعل الصيانة فرض عين وليس كفاية نتذكره وقت الكوارث وسرعان ما ننساه بعد برهة وجيزة؟ لابد أن نبدأ من اشاعة ثقافة الصيانة وقيمتها فى مجتمعنا، فالمصريون بطبيعتهم لا يهتمون بهذا الجانب، وتخصيص بند ثابت فى ميزانيات الهيئات الحكومية والخاصة للصيانة الدورية، وأن يكون لكل منزل سجل خاص للصيانة يتولى الحى مراجعته عبر آلية يتم تحديدها بمعرفة الجهات المختصة. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي