هو نموذج لذلك الصراع الأبدى بين المبدع وقهر السلطة .صراع بين طرف يرى الحرية بلا قيود وأن المبادئ تسمو على حسابات الأنظمة ، وبين طرف يخضع المبادئ لميكافيلية السياسة وتقية المواءمات .لكن التاريخ يؤكد أن الأنظمة تسقط والقهر يموت ويبقى الإبداع شاهدا ودليلا وتاريخا يقظا فيه عبرة وعظة فقط لمن يعتبر . هو رائد مبدعى الجيل الثالث فى سينما الجماليات بعد شادى عبد السلام وسعد نديم ..مواهبه جعلته يصنف كالمخرج رقم 15 فى تاريخ إبداع الأفلام الوثائقية فى العالم 1980 وكان عمره 33 عاما وقد قامت بهذا التصنيف جامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية. ولد أحمد فؤاد درويش ونشأ فى قصر جده لأمه نديم بك مدير عام دار الكتب الملكية فتمتع بالنشأة فى بيت فكر وفن وثقافة تقدمية، فهو البيت الذي نشأ فيه سعد نديم الرائد الأول للسينما التسجيلية فى مصر والفنان أسعد نديم أستاذ الفولكلور والمأثورات الشعبية وخبير ترميم الآثار .شاء له القدر أن ينشأ فى هذا المنزل بعد أن استشهد والده مهندس البترول فى السويس إبان العدوان الثلاثى ..فجاء أحمد طفلا ليلتحق بمدرسة النقراشي النموذجية الإعدادية ثم الثانوية حيث تعرف على استعداداته للتمثيل والإخراج الفنان عدلى كاسب مفتش التربية المسرحية بالوزارة.لقى هذا صدى فى نفسه وتشجيعا من المخرج صلاح أبو سيف الذى كان جد أحمد لأمه نديم بك زوج خالته ..شجعه صلاح أبو سيف على الالتحاق بأكاديمية الفنون . بينما أصرت والدته على أن يلتحق بجامعة القاهرة .لم يجد فى نهاية الأمر بدا من الانضمام إلى الكليتين . فحصل على بكالوريوس أكاديمية الفنون وبكالوريوس جامعة القاهرة من كلية التجارة شعبة علوم سياسية. لم يكن المال ولم تكن الشهرة يوما ما همه الأول بل كان كل ما يهمه أن يفعل ما يريد ، بداخله الكثير من الحزن بفعل بيروقراطية عقيمة حاربته طويلا فى مؤسسة السينما ووزارة الثقافة ومن أبناء جيله الذين فضلوا الدوران فى فلك السلطة ..هذا الحزن ولد لديه طاقة هائلة من السخرية يدهشك بها حين تجالسه ، وخلق بداخله حالة من التحدى تدفعه دوما للاستمرار ..يقع ليقف من جديد..وهنا سألته: يقول علماء النفس إن أكثر الناس ضحكا وسخرية هم عادة من مروا بالكثير من الصعوبات..هل ينطبق هذا عليك؟ بالتأكيد فقد حاربتنى البيروقراطية فى مؤسسة الثقافة طويلا، وحاربنى زملائى من المثقفين الذين اختاروا مقاعدهم بجانب السلطة ومررت بالكثير من الصعوبات بدأت مع عميد المعهد العالى للسينما الذي رفض تعيينى معيدا بالكلية بسبب مقالات كتبتها فى جريدة المساء بعنوان :» أزمة القيم فى أكاديمية الفنون » . فى الوقت نفسه كنت قد عينت وأنا ابن الحادى والعشرين عضوا بالمكتب الفنى لرئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة للسينما «نجيب محفوظ » وشاركت فى التخطيط لإنتاج الأفلام الروائية : الزوجة الثانية ،القاهرة 30 ، يوميات نائب فى الأرياف ، شىء من الخوف ، المومياء . ثم كان صدامى الثانى مع عبد الحميد جودة السحار الذى تولى رئاسة مؤسسة السينما ، وصل إلى حد إصدار السحار قرارا بفصلى لكنى عدت للعمل بضغط من وزير الثقافة ثروت عكاشة ..لكن إحساسى الدائم بعدم الأمان وحاجتى إلى أن أبدع انطلاقا من أفكارى ،دفعنى لتأسيس شركة « فرعون فيلم » وبدأت أفلامى التسجيلية تتوالى : الوزير تى ، الماشطة ، آمون حتب . عرضت أفلامى فى العديد من المهرجانات العالمية ولما شاهدها الدكتور ثروت عكاشة أدرك من منطلق وعى رجل أدمن الثقافة وعشق الآثار ، أهمية الموسوعة السينمائية للحضارة الفرعونية التى قدمتها وقوامها ثلاثون فيلما وثائقيا جماليا، فأمر عكاشة السحار بإسناد فيلم روائى لى على شاكلة المومياء لشادى عبد السلام .فأسند إلي مهمة المنتج الفنى لفيلم « ليل وقضبان «عن قصة نجيب الكيلانى فأنجرت المهمة بنجاح وعمرى 24 ساعة حتى لقبت « بالمنتج الطفل » . وكان « ليل وقضبان » آخر فيلم مولته الدولة بعد أن أصدر السادات قرارا جمهوريا عام 1971 بمنع تمويل الدولة للإنتاج السينمائي بسبب الخسائر . أعلم انك تعرضت لمضايقات من البعض بسبب موسوعة الحضارة الفرعونية؟ لقد اتخذ زاهى حواس تحديدا موقفا عدائيا من تلك الفرعونيات، لأنه يفضل التعامل مع السينمائيين الأمريكيين . لماذا اصطدمت مع السادات حتى منع عرض أحد أفلامك؟ كنت قد مولت وأنتجت و أخرجت وكتبت نص فيلم « كرنفال » الذى تناولت فيه قضية العنصرية فى العالم من خلال الصراع العربي الإسرائيلى والوجود الأمريكى فى فيتنام وأزمة جنوب افريقيا . نال الفيلم جائزة مهرجان ليبزخ السينمائى الدولى فى نوفمبر 1975 لكن السادات منع عرضه، لأن الفيلم يصف أمريكا بأنها دولة استعمارية ولأنه يؤكد أن حرب أكتوبر لن تكون آخر الحروب . وبعدها ببضعة سنوات رفض صفوت الشريف تعيينه فى منصب رئيس قطاع الإنتاج السينمائى لأن درويش -على حد قوله – «يصعب قيادته «. لماذ تقف السينما التسجيلية بمصر فى موقع متآخر؟ دائما ما أقول إن السبب الأول لتدهور السينما التسجيلية هو أنها « بايخة» و«دمها تقيل» بمعنى أنها تبعث على الملل . وجوهر بناء الفيلم التسجيلى المصري على مدى الأجيال الثلاثة يفتقد إلى التكامل الإبداعى بمعنى إذا كان السيناريو جيدا تكون الصورة غير مناسبة للصورة وإذا وجدت صوت المعلق جيدا نجد الموسيقى التصويرية المصاحبة للصوت سيئة وإذا كان التصوير جيدا يأتى المونتاج رديئا . هذه العيوب فى الصنعة إنما مبعثها حرص المخرج على إرضاء العميل أكثر من اللازم بمعنى إذا كنا نصور فيلما يخص الزراعة ينصب اهتمام المخرج على حديث الوزير أو المسئول على حساب تهميش الموضوع الأصلى كما أن الدولة تنظر للفيلم التسجيلى المباشر بوصفه مجرد بوق للدعاية لإنجازات الدولة . وفى الوقت نفسه لا تمول إلا الأفلام التى تخص إنجازاتها مثل مجموعة أفلام السد العالى . لكن هذا لا ينطبق على أفلام سعد نديم فى الجيل الأول ولا أعمال شادى عبد السلام فى الجيل الثانى ولا اعمال درويش فى الجيل الثالث؟ كان هذا بفضل قرار د. ثروت عكاشة عام 1969 بضرورة عرض فيلم تسجيلى فنى قبل أى فيلم روائى فى دور السينما التجارية وظل هذا القرار مطبقا حتى عام 1972 وهو العام الذي استقال فيه د. ثروت من أى منصب رسمى بالدولة بعد تولى السادات مقاليدالحكم وكان القرار ينص على عرض أفلام رسوم متحركة للأطفال يليها عرض العدد الجديد من الجريدة السينمائية للدولة ومصر الناطقة ثم عرض فيلم تسجيلى يعقبه استراحة ثم يعرض الفيلم الروائى. وتوقف هذا القرار أصاب الفيلم التسجيلى بالكساد فى ظل عدم وجود أى شبكة حكومية أو خاصة لتسويق الفيلم التسجيلى المصري داخل مصر وخارجها وهى التجربة التى عانيت منها شخصيا . تعليم التاريخ بالسينما الوثائقية ..منهج متبع فى العالم المتقدم . وقناة مثل ناشيونال جيوجرافيك حققت تقدما هائلا فى ذلك المجال ؟ الفيلم الوثائقى وسيط تعليمى فى غاية الأهمية خصوصا وأنه اعتبارا من الصف الأول الإعدادى يمكن توجيه أفلام وثائقية وفنية لهذه المشاهد. وفى مدارس أوروبا وكندا واليابان وأمريكا تقدم أفلاما ندرك جيدا أن هدفها التعليم لمضمون ما ومنها تعليم التاريخ بالأفلام الوثائقية . أما ما يخص قناة «ناشيونال جيوجرافيك» فهى أفلام تهتم أساسا بسينما الرحلات سواء برية أو نهرية أو بحرية أو فضائية ..وهى تقدم أفلاما جاذبة للمشاهد من كافة الأعمار لأنها مسلية غير مباشرة .