تنفيذ 6 حالات إزالة لتعديات على أرض زراعية بمدينة أرمنت في الأقصر    وزارة التموين تفتح غدا صرف الخبز المدعم للمصطافين بالمحافظات الساحلية    قتل خلال معركة بالفاشر، معلومات عن علي يعقوب أحد أذرع حميدتي    أهداف مباراة الزمالك وسيراميكا فى الدورى    الإنقاذ النهرى يتمكن من انتشال طفل غرق فى مياه إحدى الترع بالدقهلية    الثالثة علمي علوم 2023 تنصح الطلاب: مراجعة وحل الامتحان حتى آخر دقيقة    مدير المسرح القومي: عروضنا في عيد الأضحى كاملة العدد وشباك التذاكر مفتوح    ابنة نور الشريف تكشف عن موقف إنساني لمنة شلبي تجاه والدها الراحل    ملك الأردن يؤكد ضرورة التوصل إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة    غدا.. ضيوف الرحمن يتوجهون إلى صعيد عرفات لأداء ركن الحج الأعظم    وزير الإسكان: إيقاف وإزالة عدة مخالفات بناء بمدن 6 أكتوبر والشروق والشيخ زايد وبني سويف الجديدة    نقيب الإعلاميين يهنئ السيسي بحلول عيد الأضحى    ويزو: 'ممنوع الأكل في لوكيشن شريف عرفة بس أنا كنت مبسوطة'    شاهد| مراحل صناعة كسوة الكعبة بخيوط ذهبية وفضية.. والقرموطي: "شيء مبهر ومبتكر"    رابط التسجيل في منحة العمالة الغير منتظمة 2024 عبر موقع وزارة القوى العاملة    فيديو.. المفتي يوضح فضل العبادة في العشر الأوائل من ذي الحجة    اجتماع مشترك بين سيدات الأعمال باتحادي الغرف التجارية والصناعات    أمن القليوبية يكشف تفاصيل جديدة في واقعة قتل طفل القناطر على يد زوجة أبيه    غارات صهيونية على قطاع غزة مع استمرار فشل محادثات الهدنة.. بايدن يتهم حماس بأنها العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق.. والاحتلال يستولى على أموال السلطة الفلسطينية    بيربوك: يجب على الاتحاد الأوروبي الحفاظ على ضغط العقوبات على روسيا    الأمير سعود بن مشعل يستقبل الرئيس السيسي في مطار الملك عبدالعزيز    اليسار الفرنسي يكشف عن خطة للتخلص من إصلاحات ماكرون وتحدي الاتحاد الأوروبي    هل تشغيل محطات الضبعة النووية يساعد في توفير الغاز لمصر؟ الوكيل يجيب    مودريتش يخالف رأي مبابي    الجيش الروسى ينفذ 19 ضربة مشتركة على منشآت استراتيجية أوكرانية    الخيار الاستراتيجي لبيزنس "بن سلمان".. الحجاج بين الترحيل أو مطاردين من شرطة مكة    الأزهر: يجب استخدام عوازل لمنع الاختلاط في صلاة العيد    الفيلم الوثائقي أيام الله الحج: بعض الأنبياء حجوا لمكة قبل بناء الكعبة    كيف تساعد مريض الزهايمر للحفاظ على نظام غذائي صحي؟    جوكر الدفاع.. فليك يقرر تغيير مركز نجم برشلونة    قصف مستمر وانتشار للأمراض الخطيرة.. تطورات الأوضاع في قطاع غزة    برامج وحفلات وأفلام ومسرحيات.. خريطة سهرات عيد الأضحى على «الفضائيات» (تقرير)    «التنسيقية».. مصنع السياسة الوطنية    «صيام»: نطبق استراتيجية متكاملة لتعريف المواطنين بمشروع الضبعة النووي| فيديو    وكيل «الصحة» بمطروح: تطوير «رأس الحكمة المركزي» لتقديم خدمات طبية متميزة للمواطنين    في اليوم العالمي للتبرع بالدم، نصائح مهمة من هيئة الدواء للمتبرعين    هل صيام يوم عرفة يكفر ذنوب عامين؟.. توضح مهم من مفتي الجمهورية    تضامن الدقهلية: ندوة تثقيفية ومسرح تفاعلي ضمن فعاليات اليوم الوطني لمناهضة الختان    "ليس الأهلي".. حفيظ دراجي يكشف مفاجأة في مصير زين الدين بلعيد    بالرقم القومي.. نتيجة مسابقة مصلحة الشهر العقاري    ماذا يحدث للجسم عند تناول الفتة والرقاق معا؟    «الإسكان»: إجراء التجارب النهائية لتشغيل محطة الرميلة 4 شرق مطروح لتحلية المياه    وزير الري يوجه برفع درجة الاستعداد وتفعيل غرف الطوارئ بالمحافظات خلال العيد    البنك المركزي يطرح أذون خزانة ب50 مليار جنيه.. خبير يشرح التفاصيل    «التعاون الدولي» تُصدر تقريرا حول التعاون مع دول الجنوب في مجالات التنمية المستدامة    «هيئة الدواء»: 4 خدمات إلكترونية للإبلاغ عن نواقص الأدوية والمخالفات الصيدلية    نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد الكبير بالمحلة    «التضامن»: استمرار عمل الخط الساخن لعلاج مرضى الإدمان «16023» خلال عيد الأضحى    لاعب بيراميدز ينفى بكائه بعد التسجيل في مرمى سموحة    فرج عامر: أوافق على مقترح الدوري البلجيكي.. ولا أستطيع الحديث عن عبد القادر وخالد عبد الفتاح    القاهرة الإخبارية تنقل صورة حية لطواف الحجاج حول الكعبة.. فيديو    إصابة شخص صدمته سيارة أثناء عبوره للطريق فى الهرم    ماس كهربائي كلمة السر في اشتعال حريق بغية حمام في أوسيم    تشكيل الاهلي أمام فاركو في الدوري المصري    حاتم صلاح: فكرة عصابة الماكس جذبتني منذ اللحظة الأولى    إنبي: العروض الخارجية تحدد موقفنا من انتقال محمد حمدي للأهلي أو الزمالك    حظك اليوم وتوقعات برجك 14 يونيو 2024.. «تحذير للأسد ونصائح مهمّة للحمل»    كتل هوائية ساخنة تضرب البلاد.. بيان مهم من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم الجمعة (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نعم.. اسمعوا الحقيقة: الحب
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 09 - 2014

أهلا يا أنا لا أختلف عن غيرى من البشر حين أعترف بأنى أصحو أحيانا من النوم ليفاجئنى سؤالى للشمس: لماذا جئت بهذا النهار مبكرا؟
ولن أنسى أن هذا السؤال سألته لنفسى حين كانت طائرات إسرائيل تمرق فوق حى المعادى بهدف تكسير شبابيك البيوت أثناء حرب الإستنزاف، وبطبيعة الحال كنت أفكر فى أصدقائى الذين يعبرون يوميا إلى الضفة الأخرى لقناة السويس ليقولوا للإسرائيليين «هذه أرضنا وستخرجون منها».
كان القلب وسط زعيق إختراق طائرات إسرائيل لسرعة الصوت، يعانى من تلوث تجربة رديئة إحتلت بعضا من أيام العمر منذ نهاية عام 1965 وحتى الهزيمة العسكرية فى يونيو 1967، فقد هاجمتنى الهزيمة العاطفية فى نهاية عام 1965، وبدت كالزلزال الشخصى تماما، فقد رأيت بعيون تجمدت دموعها إنتحار طائر الحب الذى رفرف بجناحيه ليسقط صريع العجز عن إيجاد بيت صغير يسع القدرة على بناء الأحلام. ولابد لى من الإعتراف أن طائر الحلم الجميل قد حملنى قبل إنتحاره لمدة سبع سنوات، بدأت أثناء الدراسة بكلية الأداب، حيث لم أكن أهتم إلا بأمرين لاثالث لهما، الأمر الأول هو أن أرى نفسى فى عينين ضيقتين لامعتين، وأدقق النظر فأرى صورتى لنفسى وأرقب فى نفس الوقت قاربين ينفرجان عن إبتسامة، والقاربان هما شفتا من أشهدت الله أن صاحبة هاتين الشفتين ستكون حبيبتى، حدث هذا فى مشهد الخلق الأول، لحظة أن جمع الحق سبحانه كل خلقه ليشهدوا بوحدانيته، وتعرف كل منا لحظتها على ملامح المكتوب فى اللوح المحفوط، والذى إكتشفنا وجوده حقا وصدقا بعيون العلم حين حدثنى إستاذى عالم النفس الجليل د. سعد جلال بأن هناك نبوءة ذاتية توجد فى أعماق كل منا، وتبدو كالبوصلة التى تقود كل منا إلى دائرة إختيارات يبدو فيها حرا، ولكن تدخل المجتمع والبيئة قد يحول البوصلة ولو بمقدار مليمتر فتنحرف النبوءة محاولة إعادة إكتشاف طريقها. وهذا التأثير غير المرئى من البيئة المحيطة هو ما نسميه نحن قدر الواحد منا .
كانت هذه هى المهمة الأولى التى أذهب بسببها إلى المبنى المطل على البحر والذى أصبح الأن مقرا لإدارة جامعة الإسكندرية ، ثم إنتقل موقع الكلية إلى الساحة المقابلة حاليا لمكتبة الإسكندرية ، وكان الموقع كله عبارة عن حديقة إزدحمت حاليا بأعداد من البشر تمت خديعتها بأنهم يتعلمون، وكانت الخديعة قد قامت بحكم روث القرارات السياسة الخاطئة التى هبطت على مصر بعد هزيمة الحلم الكبير فى يونيو 1967، ورغم إنتصار أكتوبر إلأ أن صنبور الأبهة الذى إنفتح فى خيال السادات هطل علينا بعدم إتساع أفق الإيمان بأن العلم هو أسلوب صناعة المستقبل ، فإزحمت الجامعات بأنصاف الأساتذة حملة مباخر النفاق لمن يعلونهم.
..............
وها هى مرارة آلامى من مسلسل هزيمة أنفسنا، مخلطة ببريق حفر قناة سويس بلا سخرة، سبحتى هذا الخليط بعيدا عن الحديث عن سؤالى لكل فجر مستقبلا الشمس لأسألها: لماذا جاء هذا النهار الجديد؟
كان الهدف الذى أصحو من أجله كل صباح بعد رؤية نفسى فى عيون حبيبتى؛ هو محاولة معرفة سؤال « لماذا نحن موجودون فى هذا العالم؟. وكان مفتاحى لمعرفة هذا السؤال هو عشقى للفلسفة التى أدرسها بهذا المبنى، وبضوء مقدمة إبن خلدون الكاشفة بدأت أرى ملامح وجودنا على الأرض ، وببساطة كلمات عالم الإنسانيات الرائع د. أحمد أبوزيد تعرفت على كيفية سلوك المجتمعات، وكيف تصيغ العادات والتقاليد والتجارب كل نهار بما نقرره، وبما سبق أن قرره أجدادنا، وبعمق ما قدمه لنا د. سعد جلال عالم النفس، بدأت أكشف بعضا من ملامح غابات الأعماق التى توجد فى ثنايا كل نفس بشرية ، وبمحاضرات د. نجيب بلدى أستاذ الفلسفة الحديثة، شاهدت رأى العين رحلة سقوط إنتظار حلول لمشكلات الحياة بعيدا عن دراسة الواقع كمفتاح للغيب القادم .
وكان العمل تحت قيادة إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وفتحى غانم وصلاح عبد الصبور، هو المصاحب لرحلة التعليم الجامعى. وشاء الواقع أن يقذف فى وجهى بحقائق لم أنساها، لكنى لم أكن أستطيع تجاوزها بتنازلات رأيتها تمس جوهر معنى الحرية الذى غرسه فينا إحسان عبد القدوس ، ولم أكن بقادر على الإبتعاد عما حذرنا منه أحمد بهاء الدين من أن يكون الكاتب صوتا يعبئه أى مسئول بأفكاره، ولم يكن هناك مفر من الأفتراب من الواقع لرؤية لماذا لا يستطيع أى ناظر لهذا الواقع ألا يؤثر فيه، ووضح هذا بشكل آخاذ فى رواية فتحى غانم الأولى «الجبل» والتى درس فيها رحلة رفض أهالى البر الغربى النزول منها ليسكنوا فى قرية «القرنة» التى أسسها وبناها المعمارى الذى يلوك أغلب المعماريين اسمه، حسن فتحى، كعبقرية فريدة فى البناء، وهم يتناسون أثناء حلقات الذكر المقامة فى أى مناسبة معمارية أن حسن فتحى أجاد بناء قرية القرنة، وتجاهل دراسة عمل وأسلوب حياة سكان البر الغربى، فلو أنه أسس فى القرية ثلاثة معاهد الأول للإرشاد السياحى والثانى لعلم التنقيب عن الآثار والثالث لصناعات الحرفية التى كانت موجودة عند قدماء المصريين، لو كان قد فعل ذلك لأقتنع أهل البر الغربى بأن هناك طريقا لمستقبل أيامهم. لكن حسن فتحى كان سباحا فى ملكوت علاقة عشق مع أميرة من أميرات أسرة محمد على وكان اللقاء دائما فى الأقصر. أجاد بناء البيوت ونسى بناء طريق إلى المستقبل فعاشت قريته كنموذج نبكى على أطلاله عجزنا عن فهم من نبنى من أجلهم .
وهذا ما كنت أفكر فيه أيام ديسمبر من عام 196 ، وكنت عائدا من قرية أبى مطلا على دولابه الخشبى الموجود داخل حائط البيت اللبنى الطوب، وعلى باب الدولاب كلمة وأحدة هى «الواجب». هل أورثنى الرجل عشقا لأداء المطلوب منى؟ كل ما أعرفه عن الرجل الذى عشت فى رحابه أربعة عشر عاما ليغادر الدنيا بعد ذلك، هو قصة حبه التى كانت أمى تثرثر دائما بمخاوفها أن تكون القصة قد إستيقظت، فيترك البيت والأبناء الأربعة ليتزوج من زميلة صباه الأستاذة منيرة التى شاركته التدريس بعد تخرجه من المعلمين العليا، بمدرسة السنية الثانوية. ولكن كان الزواج بين أبى وبين زميلته مستحيلا إلا إن حدث كزواج عرفى مصحوب بصرامة عدم الإنجاب ، لأن وزارة المعارف العمومية كانت تحرم زواج المدرسات ، فالمدرسة لايصح أن تنشغل بزوج وأبناء، ولكن هل توجد نساء بلا نداء للحب يطل من العيون وتلده الغدد ويتحرك به الجسد شوقا إلى الإكتمال الإنسانى؟. لم تكن وزارة المعارف العمومية فى بر مصر المحروسة تعى ذلك، رغم أن وزيرها كان هو سعد زغلول الذى سبح فى أموال زوجته، ليلعب الميسر ليلا ويسمع الحشود هاتفة بإسمه نهارا، منذ أن نصبوه حارسا لأحلامهم بثورة 1919. وأعترف أنه لم يكن من حق سعد زغلول أو اللورد كرومر أو أى كائن مهما كان أن يحرم إثنين من إستكمال رحلة العشق، بدعوى أن المرأة مدرسة.
وحين عدت من قرية أبى فاجأتنى الحبيبة بقرار واضح من أن قصتنا لابد لها من نهاية ، ولما كنت غير قادر على تدبير مقدم وخلو رجل لاى شقة مهما صغرت. و تلقيت لكمة اليأس من عيون الحبيبة وهى تعلن لى «فلابد أن نخنق حبنا بأيدينا».
ولابد لى من الإعتراف بأنى كنت لا أتخيل الحياة دون خطواتنا معا فى شارع معروف بعد تناول العشاء من محل الفول الهادئ، وبعد أن نلملم قروشنا لندفعها ثمنا للعشاء، ثم نجرى لنحلق ميعاد بيت المغتربات لتكون هى آخر من تدلف إليه.
ولكن هاهى الحبيبة أعلنت هزيمتنا لأننا نعجز عن إستئجار شقة، فضلا عن أن ثراء أسرتها سيجعلها تخوض حربا لإزالة حواجز لن أستطيع القفز عليها، حواجز الشبكة المكونة من «الدبلة» ذات فصوص الماس المسماة «باجيت» والخاتم الذى يزن قرابة القيراط من الماس. فتلك الأشياء لا أعرف أنا شخصيا عنها سوى ما أحرره مساء كل خميس ضمن صفحات المجتمع التى أشرف عليها بمجلة روز اليوسف بعنوان «أين يذهب الناس»، وبعد الإنتهاء من عملى كنت ألهث حاسبا القروش التى فى جيبى، وهل ستكفينا العشاء المكون من طبق فول وثلاثة أقراص طعمية، حيث إن مرتبى كان يذهب أغلبه لحساب الصيدلية السكندرية التى تأخذ والدتى منها الدواء. وكنت قد سمعت بأذنى من طبيبها الخاص د. أحمد السيد درويش عميد طب الإسكندرية ، مراحل مرضها، حيث أكل مرض السكر عيونها، وإقتربت من النهاية، وكنت أنظر لها بعيون من يعتذر لها عن توترها المتواصل منذ زواجها من أبى، وصولا إلى إرهاقى لها بسنوات مراهقتى الشرسة. كنت أعلم أن أبى كان يؤكد لها صباح مساء أن حبه لبيته فوق كل إعتبار، لكن عيونها كانت تبرق بحثا عن آثار زميلته القديمة المدرسة بمدرسة السنية الثانوية للبنات، فقد فاضت قصة حب أبى بآثارها حتى وصلت إلى مسامع أمى .
ولم أكن أمتلك أدنى جرأة لأطلب من أصدقائى وهم من كبار المسئولين فى عصر عبدالناصر أى وساطة للحصول على شقة من شقق الحراسة، لأن إحسان عبدالقدوس علمنا ألا نطلب من أى مسئول أيا من كان خدمة تخص مستقبلنا. فضلا عن إيمانى بأن أخذ شقة بالوساطة هو أمر ضد كرامتى الخاصة .
..............
ومنذ أعلنت الحبيبة أن علينا أن نودع أحلامنا ، بدأت أعانى من أنى صرت أقهر نفسى على القيام بأى عمل مطلوب منى، دون أن أشعر بقيمة هذا العمل.
ولا أدرى أى جاذبية تلك فى الشاب المفلس كسير القلب حتى تبدأ مهاجمته من راغبات الزواج. وكنت أضحك من نفسى حين أجد الخوف من العنوسة يطل من عيون أكثر من فتاة ، وكانت أقرب خائفة من العنوسة هيفاء ما أن تراها حتى تظن أنها جاءت من الأندلس، هذا الشعر الفاحم اللامع والجسد المصقول على هيئة جميلات السينما الأمريكية، ولكن ما أن تتكلم حتى تسمع صوتا أقرب إلى تزييق باب قديم، فتثور أعصابك لتفكر فى الجرى بعيدا عنها وبلا توقف، فضلا عن عجز التواصل النفسى .على طول الخط، وعدم القدرة على سماع أى رأى لها فى أى مسألة .
لكن لابد لى من أن أعترف أنى إنجذبت إلى محاولتها للتقرب منى وترجمتها الفورية لمبدأ «ظل رجل لا ظل حائط». وكأنى بهذا الإقتراب كنت أنتقم من نفسى بنفسى.، ولم يكن مطلوبا منى سوى حضور حفل خطوبة.
قال لى عبدالحليم حافظ يومها «لابد أن تطيل فترة الخطوبة ، فأنا واثق أنك لم تنس حيبتك».
وقررت بينى وبين نفسى أن أقبل نصيحة عبد الحليم حافظ بألا أسرع فى الزواج، وبعد إنتهاء حفل الخطوبة نزلت مع صديقى يوسف فرنسيس لأقضى معه جانبا من الليل فى فندق النيل، ولم نتكلم أنا ويوسف لكنه رآى دموعى تنزل من عيون مفتوحة كأن جسدى قد طفح به كيل رفض الواقع الذى يحاصرنى من كل إتجاه .
وحين عاد بى يوسف فرنسيس بسيارته الفيات الزرقاء والتى قيل عنها أنها «نصر». مرت السيارة على شارع مصدق ، لنسمع صراخا فتوقفنا لنعلم أن بعضا من سكرتارية المشير عامر قد إستأجروا فيلا لقضاء بعض من اللهو النزق، ورأينا سكرتير المشير عبد الحكيم عامر المسمى على شفيق وهو يصرخ فى ضابط شرطة، قائلا «أنا مدير مكتب المشير». وكانت بجانبه زوجته المطربة مها صبرى، وبجانبهما الملحن بليغ حمدى .
ولم نتكلم أنا ويوسف عما رأيناه . فقد كان كلانا يعلم أن قمة السلطة عند جمال عبدالناصر تتميز بالعفة والتصرف بحساب من أعضاء هيئة مكتبه، أما مكتب المشير فكل شيء مباح، وطبعا كان المباح أيامها كثير لكن ما رأيته منه هو إيصالات إستلام السخانات والثلاجات والبوتجازات، ومعها إيضا إيصالات تسلم السيارات «نصر ألف ومائة» و«نصر ألف وثلاثمائة» وكان أقارب مها صبرى يبيعون تلك الإيصالات بمكسب يتراوح بين عشرين جنيها للثلاجة أو الغسالة ، وينخفض المبلغ إلى عشرة جنيهات فى إيصال البوتجاز، ولكنه يعود إلى الإرتفاع إلى رقم المائة جنيه عند بيع إيصال السيارة نصر ألف ومئة ، ويزيد المبلغ إلى مائة وخمسين جنيها لإيصال السيارة ألف وثلاثمائة، لأن سوق التاكسى كان يجتاجها بشغف .
..............
فى الصباح خلعت خاتم الخطوبة المزيفة من أصبعى، واتصلت بمن أرادتى ظلا بديلا عن أى حائط، قائلا «أنا غير صالح لأداء مهمة الزوج المعروضة على شخصى فبرجاء قبول إستقالتى العاطفية» .
..............
ولم يطل اكتئاب ما بعد هزيمة يونيو طويلا بعد أن زرت صديقى العميد عدلى الشريف بمكتبه الواقع بمبنى القيادة المشتركة ، وكان عدلى الشريف هو ضابط الإتصال مع الصليب الأحمر، قال لى: بعد أن فرغ عبد المنعم رياض من إعتقال المشير عبدالحكيم عامر حسب الخطة التى وضعها السيد أمين هويدى وشعراوى جمعة وسامى شرف ، ذهب عبد المنعم رياض لمكتب رئيس الأركان ليأمر بإزالة الفخامة الزائدة عن الحاجة ، وطلب ترابيزة عريضة وكرسى واحد، وملفات ضباط القوات المسلحة كاملة؛ ليسهر الليالى منتقيا من سجلاتهم من يصلح للبقاء فى القوات المسلحة ويمكنه المشاركة فى حرب طويلة، ويحيل غير الصالحين للتقاعد. وتطابقت كلمات عدلى شريف مع ما رواه اللواء إبراهيم شكيب فى المجلد الذى أصدرته القوات المسلحة بمناسبة مرور ربع قرن على إنتصار أكتوبر. وهى المجلدات التى أتمنى إعادة إصدارها من جديد .
سألت عدلى شريف يومها «هل بقى من هيئة مكتب المشير هؤلاء المتاجرون بإيصلات الإجهزة الكهربائية والسيارات؟» . ضحك عدلى شريف «لم ببق فى القوات المسلحة سوى هؤلاء القادرين على القتال إما للإنتصار أو وصولا إلى السماوات على أجنحة الملائكة.
وهنا بدأت أشعر أن أوتار أحاسيسى قد إنضبطت لألمح انسجاما يشرق فى أعماقى .
وعانقت عيونى فى ذلك النهار مشهدا رأيته من نافذة مكتب عدلى شريف ، شاهدت الضابط إبراهيم الرفاعى قائد المجموعة 39 قتال وهو يركب لورى مع زملائه ليعبروا الضفة الأخرى من القناة، ليواصل هذا الوطن حربا سميت فى تاريخه «حرب اّلإستنزاف». وبها بدأت رقعة التمزق الذى كان على سطح قيادة الوطن فى الإلتحام، وانتبهت إلى ما كان يؤكده لى صديقى عالم النفس الكبير د. سعد جلال «التمزق السياسى ينعكس بتمزق إجتماعى وتمزق نفسى، فلا داعى لسؤالك عن سر مواجهتك للتمزق النفسى بهذا الحسم الذى غادرت به قصة الخطوبة المزيفة .
وطبعا لا يمكن لى نسيان حفل العشاء الذى أقامه عبد الحليم حافظ بتلك المناسبة وعزم صديقنا الرائع يوسف فرنسيس، وكان الطعام هو اللون الذى أحبه ، فتة الكوارع ولحمة الرأس. وكان يوسف فرنسيس يشترك مع عبد الحليم فى تناول الخضار المسلوق وقطعة لحم فى حجم عقلة الإصبع، فإذا عبد الحليم يشكو من دوالى المريء، فيوسف فرنسيس ضحية لمرض السكر منذ عامه الرابع عشر.
..............
نعم ما زلت أكرر ما يجب أن نعرفه جميعا وهى أن الحب فى حقيقته عمل سياسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.