كرست الدكتورة هدى جمال عبد الناصر حياتها لجمع تراث والدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بصورة علمية موثقة . وهى تقوم بعمل لا تستطيع مؤسسات كبيرة القيام به او إنجازه بهذه الدقة والعلمية والسرعة فى نفس الوقت فقد صدر الاسبوع الماضى عن المكتبة الاكاديمية بالقاهرة الجزء الثالث من «جمال عبد الناصر: الاوراق الخاصة» والذى يغطى مرحلة تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى . والكتاب «كما ترون» جزء ثالث من اجزاء صدرت من قبل تناول اولها جمال عبد الناصر طالبا وضابطا, والثانى الثورة فى سنواتها الاولى. وسوف يصدر بعده ثلاثة اجزاء تتناول الوحدة المصرية السورية, والثورة الاجتماعية, والمراجعة الشاملة للنظام من 1961 وحتى 1967, وعدوان 1967 وحرب الاستنزاف . وهنا لابد من الاشارة الى ان الدكتورة هدى عبد الناصر ذكرت فى تقديمها للكتاب انها ارادت فى بداية إعدادها لهذه السلسلة من الكتب ان تقسمها موضوعيا لمساعدة الباحثين، إلا انها وجدت ان ذلك مستحيل لأنها اوراق خاصة تتضمن اكثر من موضوع، لهذا خلصت الى ان التقسيم التاريخى هو الذى يتناسب اكثر مع نوعية الكتاب, فهو يتضمن وثائق قيادة سياسية احتلت مكانة بارزة على الساحة الدولية فى القرن العشرين، ولعبت دورا رائدا فى تاريخ وطنها وأمتها. وهى تنوه الى ان ما يتضمنه الكتاب ليس كل اوراق جمال عبد الناصر وإنما هى فقط تلك التى كانت فى مكتب منزله فى منشية البكرى, اما باقى اوراقه فهى موجودة فى ارشيف رئاسة الجمهورية فى عابدين . وتنوه ايضا الى ان هذه الاوراق لم تكتب للنشر بل كتبها جمال عبد الناصر لنفسه فجاءت معبرة عن افكاره ومعتقداته وسياساته فى تطوراتها المختلفة, وذلك يدعم مصداقيتها, فالمذكرات تكتب بإرادة صاحبها, يحذف منها ما يريد ويجمل منها ما يشاء, اما ما يتضمنه الكتاب فهو اوراق حميمة بلا تنميق ولا اضافة . كما تتحدث معدة الكتاب عن علاقتها بمادته, ودوره فى تغيير زاوية رؤيتها لوالدها الرئيس جمال عبد الناصر، وحكايتها الشخصية مع عدد من الوثائق التى تتضمنها هذه السلسلة الفريدة من الكتب . حيث تشير الى فرحتها بالعثور على بعض منها وكيف تفسر وثائق اخرى بعض احداث التاريخ الذى عاصرناه . ويضم هذا الجزء صورا نادرة ووثائق كتبها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بخط يده او قدمت له من قبل قيادات الدولة الكبرى فى المرحلة التى يتناولها الكتاب, الذى تم تقسيمه الى اربعة فصول, يتناول الاول منها مقدمات الصراع السياسة والعسكري, وبه 11 وثيقة تبدأ من مذكرة لخالد محيى الدين وزير الداخلية عن مأمورية بوب اندرسون المبعوث الخاص للرئيس الامريكى ايزنهاور فى اوائل عام 1956. وتنتهى بمفكرة عن الشئون الداخلية والإعلامية والثقافية وتعليمات بإنتاج الماء الثقيل فى نفس العام ايضا . اما الفصل الثانى فهو الاكثر اهمية, لأنه يتضمن معركة السد العالى وتأميم قناة السويس وبه 31 وثيقة , تبدأ بتأشيرة للرئيس جمال عبد الناصر حول عرض الحكومة الامريكية والبنك الدولى تمويل مشروع السد العالى فى ديسمبر 1955، وتنتهى بمذكرة حول المفاوضات فى جنيف كاقتراح همرشولد فى 29 اكتوبر 1956. ومعدة الكتاب الدكتورة هدى عبد الناصر لا تكتفى بان تورد لنا الوثائق المهمة التى يتضمنها الكتاب, وإنما تقدم لكل فصل بمقدمة وافية تضع الوثائق فى سياقها السياسى والتاريخى . ففى هذا الفصل على سبيل المثال : تضمنت المقدمة نقاطا مهمة مثل اشكالية مشروع السد العالى وعقبات تمويل السد العالى وسحب تمويل المشروع وقرار تأميم قناة السويس وتنفيذه، ورد الفعل فى الغرب عليه، وموقف مصر من التصريح الثلاثى ومؤتمر لندن الذى كان واجهة للعمل العسكرى، ومصر فى مواجهة التآمر بالغزو وانتقال ازمة السويس الى مجلس الامن وتجهيزات العدوان . اما الفصل الثالث فهو مخصص للعدوان الثلاثى على مصر ويضم 34 وثيقة تبدأ بتعليمات بالإعلان عن رسالة من الرئيس ايزنهاور يطلب فيها معاونة امريكا لصد العدوان البريطانى الفرنسى المنتظر، وتنتهى بجواب استقالة القائد العام للقوات المسلحة عبد الحكيم عامر بعد العدوان الثلاثى فى 28 ديسمبر 1956 . ويتناول تقديم معدة الكتاب لهذا الفصل موضوعات وقضايا غاية فى الاهمية وهى : هجوم اسرائيل عبر سيناء والإنذار البريطانى الفرنسى ورد الفعل الامريكى بعد العدوان الاسرائيلى على مصر وتوابع الهجوم البريطانى الفرنسى على مصر والتحرك السوفيتى والغضب الامريكى والإنذار السوفيتى ونداء من الحكومة المصرية الى الولاياتالمتحدة ويتنهى التقديم بتناول العدوان الثلاثى فى الاممالمتحدة . والفصل الرابع والاخبر يتناول المعركة السياسية بعد وقف اطلاق النار. و يبدأ بتقدير موقف للمعركة السياسية بعد انتهاء الاعمال العسكرية ورسالتين من القادة السوفيت وينتهى بمسودة خطاب الرئيس جمال عبد الناصر فى بورسعيد فى 23 ديسمبر 1957 . اما التقديم فيتناول قضايا غاية فى الاهمية مثل الموقف السوفيتى الى جانب مصر وموقف بريطانيا وفرنسا والموقف الاسرائيلى والموقف الامريكى ونظرة عامة على العدوان . والكتاب به ملاحق مهمة على «دى فى دى» يوزع معه، منها دستور الجمهورية المصرية الصادر فى سنة 1956، ومعاهدة القسطنطينية فى 29 اكتوبر 1888، وقرار رئيس الجمهورية بتأميم القناة وتقارير البنك الدولى الخاصة بمصر فى الفترة من 1951 حتى 1971 ونص التصريح الثلاثى واتفاقية الهدنة المصرية الاسرائيلية الموقعة فى رودس باليونان وغيرها من الوثائق السياسية والحوارات ومقابلات وزير الخارجية ومراسلاته خلال الفترة التى يتناولها الكتاب, الامر الذى يجعل من منه وثيقة تاريخية مهمة . والكتاب, فضلا عن الجهد الكبير الذى بذل وتضمنه وثائق مهمة بخط يد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر, يقدم وجهة النظر المصرية الرسمية حول تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى على مصر وعلاقات مصر بكل من الولاياتالمتحدةالامريكية والاتحاد السوفيتى، فضلا بالطبع عن آليات عمل الدولة المصرية والأسس التى تقوم عليها عملية صنع القرار فى مصر . وهذة القضايا كلها كتبت عنها دراسات اكاديمية وكتب مهمة منها كتابات الاستاذ محمد حسنين هيكل وغيره ممن تناولوا نفس الفترة الزمنية ولكن الكتاب الذى بين ايدينا يقدم المادة الخام التى تقوم عليها هذه الكتب والدراسات ، وهى مادة خام قد تفتح شهية باحثين او كتاب آخرين لدراسة زوايا اخرى لنفس القضايا او لإطلاق مؤلفات اخرى لم تتناولها الكتب التى نشرت حتى الآن او تناولتها بصورة تفتح الباب امام مؤلفات اخرى جديدة . والجهد الذى بذلته الدكتورة هدى عبد الناصر فى إعداد الكتاب وتبويبه تستحق عليه التحية ، فهذا الجهد عادة ما تقوم عليه مؤسسات رسمية وليس افرادا، وعادة ما يستغرق وقتا طويلا وجهدا كبيرا، لا يستطيع ان يقوم به الافراد، وكان الاولى بدار الوثائق القومية ان تحتضن هذا الأمر، ولكن يبدو ان السياسة تقوم بدور فى الامر، وانحيازات النظام السياسية هى التى تحدد جدول اعمال المؤسسات الثقافية، فهذا المشروع الذي تقوم عليه الدكتورة هدى عبد الناصر هو ابن سنوات التسعينيات من القرن الماضى وبالتالى نستطيع ان نفهم لماذا لم تحتضنه مؤسسات الدولة الثقافية. وهنا يجب الاشارة الى جراءة المكتبة الاكاديمية لتحملها عبء نشر كتاب من الصناعة الثقيلة بالفعل ومثل هذه الكتب عادة ما يكون الاقبال عليها بطيئا . الكتاب : جمال عبد النصر الاوراق الخاصة الجزء الثالث المؤلف : هدى جمال عبد الناصر الناشر : المكتبة الاكاديمية الصفحات : 577 صفحة