أحد الدروس المستفادة فى حقل التنمية هو ضرورة أن يكون لكل دولة خصوصيتها التنموية، أى تجربتها الذاتية الفريدة. دول «البيركس» التى تمثل التعاون التنموى الجنوبي- الجنوبي، وهى الصين، روسيا، البرازيل، الهند، جنوب إفريقيا، لدى كل منها تجربتها الخاصة، والتى صارت نموذجا تنطلق منه فى علاقاتها التنموية الخارجية، وبالأخص فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. أزمة التنمية فى المجتمع المصرى أنها سارت فى دروب شتى تسبب فيها اختلاف أجندة الممول الخارجي، ولم يكن لدى مؤسسات التنمية هم سوى الحصول على مساعدات خارجية، وهو ما أضعف من قدراتها على بناء تجربتها الخاصة. كم من مشروعات أقيمت ولم تكتمل، وكم من مشروعات تأسست، ولم يجر البناء عليها، وكم من مبادرات اتخذت، وأنفقت عليها أموال طائلة، ولم تخدم احتياجات حقيقية. الحديث فى ذلك يطول، يعرفه الباحث والممارس تحت عنوان غياب الاستدامة فى التنمية، والنتيجة أن المجتمع المصرى الآن ينقصه تصور تنموى للمستقبل، أى رؤيته لذاته. ولا يبدو أن الأحزاب السياسية معنية بهذا الشأن، ولا يوجد إطار يجمع مؤسسات التنمية حول توجهات مشتركة، وتظهر الحكومة بما تتخذه من مبادرات قومية فى واد، والهيئات غير الحكومية العاملة فى مجال التنمية فى واد آخر. البداية الجادة لوضع تصور تنموى للمجتمع المصرى بأسره هى «توثيق» خبرات التنمية المحلية، والخروج بدروس مستفادة، وبناء عليه يمكن التفكير فى رؤية للمستقبل، تعمل من أجلها الحكومة والهيئات غير الحكومية، والقطاع الخاص. هذه ليست مهمة سهلة فى ظل مجتمع لا يوثق لتجاربه توثيقا جيدا، وفى أحيان كثيرة يريحه أن يعيش بلا ذاكرة مؤسسية. توثيق الخبرات التنموية يحقق أهدافا عديدة: التعرف على عوامل النجاح والاخفاق مما يجعل البدايات الجديدة تستند إلى أسس عملية، وكذلك تطوير فهم الواقع بحيث لا يكون إدراك المجتمع مشوها، لا يرصد التغيرات التى تحدث فيه نتيجة الاعتماد على تقييم غير حقيقى لاحتياجاته، فضلا عن تكوين ذاكرة للعمل التنموي، توثق العمل بمختلف مشتملاته، وتوفر بنية معلوماتية تمكن الممارسين فى مجال التنمية من الإفادة من خبرات من سبقوهم. أحد الأمراض الثقافية فى المجتمع المصرى هو «غياب الذاكرة»، أو حضور «الذاكرة المشوهة»، أو «الذاكرة الانقسامية» فى مختلف المجالات، مما ينشئ أجيالا على رؤى مضطربة، وأفكار مشوشة. توثيق خبرات التنمية يؤدى إلى مساعدة الأجيال الشابة على تكوين ذاكرة جيدة تجاه مجتمعهم، ما يجرى فيه، وما يجب أن يكون عليه من تقدم، وأمان، ومساواة. ويساعد توثيق خبرات التنمية على الجمع بين الفكر والممارسة. فمن الخطأ أن تتحول التنمية إلى مجرد أنشطة متتابعة دون وجود إطار فكرى يجمعها، ودون متابعة، ونقد، وتحليل يساعد على توليد أفكار تمثل فى ذاتها نقطة انطلاق لبرامج مستقبلية. ومن ناحية أخرى فإن هذه العملية توفر مساحة مهمة للتقييم الذاتي؛ إذ يقود توثيق المشروعات التنموية بعد انتهائها إلى ممارسة المساءلة الذاتية، التى تقود إلى الشفافية، والتجويد فى العمل، وتفادى أوجه التقصير فى المستقبل. بالطبع نحن فى مسيس الحاجة إلى النقد الذاتى على الصعيد الاجتماعى للتخلص من جملة من الخصائص الاجتماعية السلبية مثل الفهلوة، والنفاق، والكذب. وأخيرا فإن توثيق خبرات التنمية، وهذا بيت القصيد، يساعد على تطوير رؤى وطنية فى مجال التنمية، بدلا من أن تكون مشروعات التنمية مجرد سباحة فى فلك الجهات الممولة، دون أى اعتبار للاحتياجات الفعلية والملحة للمجتمع، بحيث تقترب برامج التنمية من مشكلات المجتمع الحقيقية، والتحديات التى تجابه التنمية على أرض الواقع؛ مما يقود بالضرورة إلى مشروعات تنموية تنبع من عمق الاحتياجات الفعلية. هذه هى البداية الحقيقية للانطلاق التنموى فى المجتمع، معرفة ما حدث وماذا أنتج وما حققناه وما فشلنا فى بلوغه، ممارسة تقييم ذاتي، ومساءلة جادة تدفع المجتمع إلى استلهام أفضل السبل لتطوير قدراته بعد أن يكون تلمس مواقع القوة، ومواطن الضعف. لا أعرف ما إذا كانت هناك هيئة أو مؤسسة توثق خبرات التنمية، وأتوقع ألا توجد جهة تحتفظ بالسجل التنموى للمجتمع المصرى على نحو يسهل استدعاؤه، والإفادة منه. بلاشك انجزت هيئات كثيرة مشروعات مهمة، وكان لها أثر فعال، لكن لم توثق التجارب، ولم يعرف بها المجتمع. إذا ظل الحال على ما هو عليه ستظل التنمية أسيرة «الأجندة التمويلية»، تحركها فى الاتجاه الذى تريده، وليس فى المسار الذى يلبى احتياجات المجتمع فى ضوء تحديد دقيق لأولوياته. هذا الحديث لا يٌرجى منه إعادة انتاج شعارات المراحل السابقة من حديث عن «التنمية المستقلة» و«التنمية الذاتية» و«رفض التبعية»، رغم أن كل ذلك له وجاهته، ربما الآن أكثر من أى وقت مضي، لكن المعنى المقصود هو أن يعرف المجتمع تدابير البداية الجادة، ولا يظل فى حالة التيه التى تفرضها حسابات المال، وموضة المصطلحات والمفاهيم، والأجندات الوافدة. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى