أواخر يونيو من هذا العام، أعلن تنظيم داعش (والاسم اختصار ل: الدولة الإسلامية فى العراق والشام) تحوله إلى الدولة الإسلامية، مبايعا أحد قادته خليفة، تحت اسم أبو بكر البغدادي، نسبة للخليفة الأول أبو بكر الصديق (فى إشارة إلى إعادة الخلافة)، ونسبة لبغداد التى يبدو أن الخليفة العراقى يسعى إلى احتلالها وتحويلها إلى عاصمة له. ترجع أصول الخلافة والخليفة إلى حوالى 2010، حين تمرَّد عبد الله إبراهيم (المسمَّى أبو بكر البغدادى لاحقا)، وتلميذ الأردنى أبو مصعب الزرقاوي، على تنظيم القاعدة وتلاسَن مع أيمن الظواهري، قائد القاعدة، وقاد تنظيما صغير الحجم يسمى دولة العراق الإسلامية، الفكرة الجوهرية المختلفة التى طرحها هذا التنظيم المنشق هى فكرة إعلان قيام دولة. مع توسع التنظيم إلى داخل سوريا لأسباب لوجستية، غيَّر اسمه إلى داعش، ثم إلى الدولة الإسلامية كما رأينا. هذا الاختلاف مهم.. فكل الفصائل الجهادية الإرهابية الأخرى انحصر هدفها فى إسقاط ما أسمته حكم الطاغوت، بأعمال إرهابية ضد النظم الحاكمة التى اعتُبرت كافرة. ولم تخرج القاعدة نفسها عن هذا السياق، سواء حين ركزت على قتال العدو البعيد، أى الولاياتالمتحدة وأوروبا، أو عادت إلى مناوأة العدو القريب، بإنشاء جماعات تابعة أو الاعتراف بها فى بلدان عربية وإسلامية مختلفة. حين تُسمَع كلمة دولة، تخطر فى الذهن عادة الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وفكرة الحدود الدولية، والانضمام للكيانات الدولية (أى المكونة من دول تُرسِل ممثلين لها). لكن داعش تكاد تقف على النقيض من هذا كله؛ فليست لها حتى الآن فيما يبدو سوى أجهزة بدائية لصرف الأموال وإدارة العمليات والتدريب العسكرى وتوزيع أو عدم توزيع الغنائم، وأجهزة إعلامية أوَّلية تُنتج ملفات فيديو إلكترونية أو تصدر بيانات على صفحات الإنترنت أو تطبعها. فوق ذلك فإن الدولة المذكورة، ليست لها حدود واضحة، لا حاليا، ولا فى تصوراتها المستقبلية. صدرت خريطة افتراضية عن إمبراطورية تمتد من شرق آسيا إلى شرق أوروبا وتشمل مساحات كبيرة من أفريقيا، لكن باستثناء هذه الخريطة الخيالية، لا تتضح للدولة المذكورة أية مطالب بخصوص أراضٍ بعينها (على غرار النزاعات الحدودية بين الدول). وباختصار، فإنها عبارة عن عملية اجتياح غير محدودة من حيث المبدأ، ولا حتى بالخريطة المذكورة، التى ربما لا تُعتَبر فى عرف التنظيم سوى خطوة أولى نحو تعبيد البشرية كلها لربها. فوق ذلك، لا تعترف هذه الدولة بأية قواعد استقر عليها المجتمع الدولي، سواء كان يطبقها بمكيال واحد أو بمكيالين أو أكثر. فهى تستحل قتل المدنيين الرجال غير المسلمين وفقا لقاعدة التخيير بين التحول إلى الإسلام أو أداء الجزية أو القتل، وسبى النساء والأطفال، وبيعهم أو تخصيصهم لمجاهدى التنظيم، أو التنازل بالسماح لهم بالهرب بشرط ترك أمتعتهم وأموالهم، وتجيز قتل غير المحاربين من المسلمين، حسب مصالح التنظيم، فضلا عن قتال أية سلطة أخرى تقف فى طريقهم. وهكذا فإن التنظيم لا يتجاهل فحسب اتفاقيات جنيف وما أشبه، بل يرفض مبدأ الدولة الحديثة بمجمله، سواء من حيث حدودها أو التزاماتها الدولية أو طبيعة بنيتها الداخلية. الأكثر أهمية أن هذا التنظيم- الدولة- الخلافة أخذ يحصد بقوة نتائج ما يقرب من نصف قرن أو أكثر مما يُعرَف بالصحوة الإسلامية. تشكو الفصائل الإسلامية المقاتِلة الأخرى فى سوريا من انفصال عدد متزايد من رجالها وانضمامهم لداعش، كما تتزايد الدعوة للداعشية، سواء كتنظيم أو كأسلوب قائم على الاستباحة غير المحدودة للجميع، فى كثير من البلاد التى شهدت هذه الصحوة، بما فى ذلك قطاعات مما قد يمكن تسميته فلول الإخوان فى مصر، بل أخذ يحصد بعض نتائج الدعوة الأصولية التى مورست فى البلدان الغربية، ليضم التنظيم عددا قد يصل إلى المئات أو أكثر من الأوروبيين والأمريكيين، يحاربون فى صفوفه لإنشاء عالم جديد. ترجع قوة الداعشية إلى أنها تجمع بين الفكر الجهادى والقطبى (نسبة لسيد قطب) والفكر السلفي، ويجرى تدريس كتب بعض رموزه فى معسكرات التنظيم، بشكل حرفي، بغير مراعاة أية قيم أو حدود عصرية، فأصبحت تمثل معظم المسكوت عنه أو المفضَّل نسيانه فى التراث الفقهى والسيرى (من السيرة). اتهام مثل هذه التنظيمات العنيفة بمجرد الجهل بالإسلام هو من قبيل التبسيط المخل، إن لم يكن من قبيل التواطؤ. واقع الأمر أن العنف المصاحب للصحوة الإسلامية، والمعتمد على إحياء مواد تراثية موجودة، ساد فى مجمل زمن الصحوة بدرجات وأشكال مختلفة. فمكبرات الصوت العملاقة فى المساجد، خصوصا فى الأحياء التى تضم نسبة من المسيحيين، أو عمليات مقاطعة المتاجر الصغيرة التى يملكها مسيحيون، أو تكفير المفكرين الأحرار الذين ينتقدون خطباء وكُتَّاب الصحوة الإسلامية، بما يتضمن الدعوة لقتلهم، والسعى المتواصل لإيجاد موقع لحد الردَّة فى التشريع المصري، وبصفة عامة الخطاب التحريضى على جميع المختلفين، سواء دينيا أو فكريا، لمدة عقود، كان يحمل طيلة الوقت، وبشكل معلن، عناصر فكرية نعرفها الآن كممارسة داعشية. وها قد اتضح أن مناهج التعليم الأزهرى فى المدارس تمتلئ بمثل هذه الأفكار. الداعشية ما هى إلا تتويج للصحوة، لأنها تطبِّق ما قاله أو ما يمتنع عن قوله (لكن يمتنع أيضا عن نقده) بقية الإسلاميين. بدأت بوادر الهيمنة الإيديولوجية للصحوة الإسلامية منذ أكثر من أربعة عقود، منذ أن أصدر سيد قطب كتاباته الأخيرة التكفيرية فى النصف الأول من الستينيات، لتلاقى إقبالا واعتناقا من شباب مصرى متعلم، فى ذروة المجد الناصري، وقبل هزيمة 1967. تطورت هذه الظاهرة فى السبعينيات وما بعدها لتفرز ما سُمِّيَ الصحوة، التى أصبحت خطابا يتمتع بدرجة كبيرة من الهيمنة على المجال العام، فى مصر والمنطقة، ولا ينتظر سوى سقوط الأنظمة السلطوية منعدمة القدرة على الإقناع، والمنفِّرة لقطاعات متزايدة من المجتمع، لكى تظهر على السطح. باختصار، يجب الاعتراف بواقع علاقة الهيمنة الإيديولوجية لعدة عقود لكتلة غير متمايزة من التنظيمات والأفكار تحت عنوان الصحوة الإسلامية على المجال العام فى المنطقة العربية وما جاورها، بالظاهرة الداعشية. كما يجب إدراك دور التشققات التى تسببت فيها الأنظمة العاجزة، مثل مصر مبارك، والسياسة الأمريكية فى المنطقة، بل ومجمل تشققات النظام الدولى فى دفع كثيرين، حتى فى أوروبا، للاندراج فى مشروع يقاتل كل القيم الحديثة، مستبيحا كل الأعراف والقيم المتعارف عليها. وقبل هذا كله، يجب علينا، فى هذه المنطقة المبتلاة بالصحوة وقمتها المتمثلة فى الداعشية، التوقف عن إلهاء أنفسنا بإلقاء اللوم على المؤامرات الخارجية لتجنُّب النقد الذاتى لثقافتنا العربية المعاصرة آن الأوان لإدراك إلحاح قضية الإصلاح الديني، بمعنى يتجاوز جذريا الإصلاح المحدود، لكن الرائد فى زمنه، الذى قام به الأستاذ الإمام، الشيخ محمد عبده. لمزيد من مقالات د. شريف يونس