«إن للفقراء حقاً فى مختلف مراحل وأنواع التعليم، فهو أولاً حق لهم، وهو ثانياً مصلحة للأمة، وهو بعد ذلك تحقيق للديمقراطية»... (طه حسين) هكذا آمن طه حسين بأهمية التعليم وضرورته للفقراء تحديداً، وذلك فى عام 1938، منذ طرح مشروعه الفكرى والثقافى «مستقبل الثقافة فى مصر». إلا أن الواقع المعيش وبعد أكثر من سبعين عاماً ينضح بأفكار وآراء تؤمن بأن المجانية هى السبب المباشر فى تدنى مستوى التعليم، حيث طالعتنا جريدة الأهرام فى عدد الخميس 24/7/2014 بمقالين، أحدهما للأستاذ عصام رفعت بعنوان (خذوا المجانية وأعطونا تعليماً)، والآخر لأستاذ جامعى هو الأستاذ الدكتور أحمد على الخطيب (التعليم الجامعى وغياب المساءلة)، وكلا المقالين ينطلق من فهم ورؤية ترى أن تدهور نظامنا التعليمى يعود إلى المجانية وأنها سبب كل الشرور والتدهور للتعليم المصري. والسؤال الذى يطرح نفسه علينا هو: هل يمكن لنا أن نتقدم خطوة إلى الأمام فى مجتمع ثلث سكانه من الأميين وأكثر من 40% منهم فقراء؟ والإجابة بالطبع كلا، فنحن فى أشد الحاجة إلى بناء المجتمع المتعلم القادر على مواجهة مشكلات وتحديات العصر الذى نعيش فيه، ولعل الخبرة التاريخية والإنسانية لخير دليل على ذلك، فمصر فى مطلع القرن التاسع عشر فى عهد محمد على كان التعليم الحديث هو بوابة التقدم وبناء مصر الحديثة، وكان تعليماً بالمجان، وكذلك التجارب المعاصرة فى دول العالم الثالث وتحديداً دول جنوب شرق آسيا لم تحقق أية تنمية إلا عبر تعليم جيد ومجاني، حتى الدول الرأسمالية وعلى رأسها فرنسا التعليم بها مجانى من الحضانة إلى الجامعة وما بعدها، وكذلك الدول الرأسمالية الصناعية الكبرى حين انتقلت من مرحلة المجتمع الزراعى البسيط إلى المجتمع الصناعى المتقدم لم يكن أمامها من سبيل سوى التعليم، والتعليم المجانى الذى وفر القوى العاملة المؤهلة والمدربة للانتقال من المجتمع الزراعى إلى المجتمع الصناعى المعقد. هذا فضلاً عن موقف الهيئات والمؤسسات والمنظمات الدولية وعلى رأسها «اليونسكو» التى أطلقت عام 1990 فى مؤتمر جومتيين/ تايلاند شعار «التعليم للجميع» ثم «التعليم للتميز» و«التميز للجميع»، وواصلت «اليونسكو» جهودها خلال الألفية الثالثة بالإصرار على تحقيق ذلك الهدف، للدرجة التى جعلت دولة كالولايات المتحدةالأمريكية - والتعليم بها مجانيا حتى المرحلة الثانوية - حينما اكتشفت أن هناك قطاعا كبيرا من المواطنين الفقراء والملونين لا يلتحقون بالتعليم الابتدائى أو يتمكنون من الاستمرار فيه بسبب ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، فأصدرت الحكومة الفيدرالية عام 2004 قانون (لا طفل يترك فى الخلف). نأتى إلى القضية الثانية وهى تدنى مستوى التعليم ومستوى الخريجين، وتلك حقيقة ساطعة كالشمس لا ينكرها أحد، ولكن السؤال هو: ما العلاقة بين تدنى مستوى التعليم والمجانية؟ وهل الجودة ترتبط بقلة المتعلمين دون كثرتهم؟ لو كان ذلك صحيحاً، كما يعتقد البعض فانظر شرقاً إلى الهند والصين! ملايين الطلاب يتعلمون تعليماً جيداً، ولم تؤثر الأعداد الكبيرة المنخرطة فى التعليم على جودته. إن جوهر الأزمة أن المعلم لم يعد على المستوى المطلوب فنياً، وذلك للإهمال الشديد الذى عاش فيه، والمدرسة فقدت قيمتها ودورها التربوى والتعليمى لصالح مراكز الدروس الخصوصية التى أصبحت بديلاً عن المدرسة، وشكلت تعليماً موازياً ومدرسة موازية ذات أهمية وضرورة بالنسبة للطلاب وأولياء الأمور. هذا فضلاً عن المناهج الدراسية التى لا تعبر عن احتياجات المتعلمين أو المجتمع، وجعلت كل وزير يأتى إلى الوزارة يصرح بأنه سوف يقوم بحذف الحشو من المناهج الدراسية وكأن تلك المناهج (كيس مخدة). وخلال أكثر من ثلاثين عاماً نسمع تلك التصريحات، لكن الأكيد أن الحشو كما يقولون مازال قائماً ولم يستطع وزير للآن من الانتهاء من تلك المهمة القومية. إن الصياح المستمر حول ضرورة إلغاء مجانية التعليم، وأنها سبب تدهور وتدنى التعليم، هو التمسك بالعرض وليس بالمرض وأصل الداء، أن نظام التعليم فى مصر فى حاجة ماسة إلى إعادة بناء وفق مطالب وأهداف الثورات التى ناضل الشعب المصرى من خلالها بدءاً من ثورة 23 يوليو 1952 وانتهاء بثورة 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، والتى نادت جميعها بمطالب أساسية وجوهرية لم تتحقق للآن، وهي: الحرية: والعيش الكريم، والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، ولاشك أن مجانية التعليم والتوزيع العادل للفرص التعليمية وفق الجدارة والاستحقاق والكفاءة من أهم معالم العدالة الاجتماعية. لمزيد من مقالات د.شبل بدران