لابد من ضرب الدولة الوطنية/النابليونية، ودخول المنطقة فى عملية صراع دينى ومذهبي، مثل أوروبا فى القرون الوسطى والتى انتهت بمعاهدة وستفاليا فى عام 1648، حتى يمكن للمنطقة أن تتطور...هذا ما صرح به برنارد لويس، امام المستشرقين، فى كلمته الافتتاحية فى مؤتمر إقليمى عقد مطلع 2007. ويعد برنارد لويس ملهما لكثير من التصورات التى وجدت طريقها للتنفيذ على أرض الواقع. وأظن أن ما قاله وحذرنا منه آنذاك قد مثل نقطة انطلاق لكثير من الاستراتيجيات والخطط والأحداث التى وقعت فى المنطقة بعدها، هدفها النهائى ضرب الدولة الوطنية/ النابوليونية. وفى ضوء كلمات برنارد لويس، والكثير من التصورات التفصيلية التى تصب فى نفس الاتجاه نشير إلى أمرين ، أولها سؤال والثانى ملاحظة مهمة على خلاصة ما طرحه لويس، هما: أولا، بالنسبة للسؤال والذى أظنه يطرح نفسه علينا بقوة، وعلينا أن نفكر فيه كثيرا، عن من الذى ينطبق عليه، وبشكل دقيق، تعريف الدولة الوطنية/النابوليونية، إلا مصر...وكأن كل ما يحدث فى المنطقة هدفه النهائى هو ضرب الدولة الحديثة بأركانها الثلاثة: الجيش، والجهاز الإداري، ومؤسسات الحداثة، وضمنا نظامها الجمهورى بحيث تترسم من جديد خرائط المنطقة تتجاوز ما جرى وقت اتفاق «سايكس بيكو» الذى يبدو أنه فقد صلاحيته، نظرا لوجود لاعبين جدد فى المنطقة. وعليه باتت الحاجة ملحة «لتقسيمات» تستجيب» للتقاسمات» الجديدة. ثانيا: إن الأداة الأساسية لتفكيك الدولة الوطنية/النابوليونية، هى الدخول فى صراعات دينية ومذهبية. أى أن تجديد المنطقة لابد أن يكون على حساب صراعات دموية ومدمرة. وكأن التاريخ الأوروبى «قدر» لابد من الذهاب إليه قسرا، وكأن المجتمعات تتم «هندستها» عنوة، بحيث يتم تفكيكها، وإعادة تكوينها بهذا النهج سابق التجهيز. وظنى أن ما طرحه لويس هو ما تم البدء فى تنفيذه فى وقت انشغلنا فيه بالتوريث وهى فكرة سواء كانت صحيحة أو لم تكن لم نلحظ انها تناقض الفكرة الجمهورية وتقاليدها وتضربها فى الصميم، أى أنها تصب فى ما طرحه لويس فى حقيقة الأمر. بيد أن الأهم هو أن ضرب مصر «سياسيا» و «ثقافيا»، بالمعنى الواسع، كان هو رأس الحربة الذى تمت به محاولة تطبيق خلخلة مصر...إضعاف الحالة التعددية فى مصر، من جهة, وتفكيك مركبها الحضارى متعدد العناصر، من جهة أخري. وقبل أن نفسر ما سبق، نشير فقط إلى أن القراءة التاريخية تقول: إن هذا التكنيك هو المستخدم دوما فى تمرير أى استراتيجيات لدى الآخرين فى المنطقة أو ما أطلق عليه مبكرا «ثنائية الإلحاق التجزئة» حيث أن الإلحاق / التبعية الاقتصادية والسياسية لا تتم إلا عن طريق التجزئة. وفى هذا المقام نرصد ست مراحل يمكن أن نوجزها كما يلي: المرحلة الأولي: بدأت بعد 62 عاما من تأسيس الدولة العثمانية، وتحديدا فى 1579 من خلال ما عرف بالامتيازات الأجنبية وتبنى ما عرف بدولة الطوائف أو الدولة الملية. المرحلة الثانية: وهى مرحلة الإرساليات التبشيرية والتى بدأت مع منتصف القرن التاسع عشر مع ضعف وترهل المؤسسات الدينية الوطنية: مسيحية وإسلامية، وانطلاق موجة من الصراعات المذهبية. أما المرحلة الثالثة فهى التى يؤرخ لها بوقوع الاحتلال الأجنبى مع نهاية القرن التاسع عشر والتى كان من ضمن مبررات دخولها أزمة ذات طابع «طائفي». ثم المرحلة الرابعة التى تعد نقطة تحول جذرية بالنسبة للمنطقة مع تأسيس دولة إسرائيل فى سنة 1948، حيث إن وجودها لابد أن يكون على حساب تجزئة المنطقة. وتأتى العولمة كمرحلة خامسة مع مطلع التسعينيات، وبالرغم من ايجابياتها الثقافية، فإنها دفعت إلى دمج الدول التى لم تحظ بنجاحات تنموية إلى تبعية كاملة وهى مرحلة أطلقت اللجوء إلى مرجعية المواثيق الحقوقية عندما يتعثر الحصول على الحقوق وطنيا، ولم نلتفت إلى تداعيات ذلك.وأخيرا المرحلة السادسة التى نعيشها والتى بدأت بهيمنة الإمبراطورية الأمريكية والتى كرست التوسع على قاعدة السوق، والتى تنظر للدول باعتبارها أسواقا وأن المواطنين هم مستهلكون/مقاولون خاصة فى الدول غير البازغة، لم يزل قائمة وهى المرحلة التى يضع برنارد لويس فيها الإطار النظرى الذى قدمنا به هذه السطور. إذا، ثنائية «الإلحاق التجزئة»، تقوم تاريخيا وإلى يومنا هذا على «تفكيك» المجتمعات...ويعتمد التفكيك على أمرين هما: أولا إضعاف الحالة التعددية، فبدلا من أن تصبح التعددية قاعدة انطلاق للأوطان تصبح معوقة له. فكل مكون من مكونات التعددية يبدأ فى النظر إلى مصالحه الذاتية على حساب مصالح باقى المكونات. وتتم إحياء الخصوصيات الذاتية فى إطار صراعى لا تكاملي. وتتعدد صور الإحياء حيث قد تكون: قبلية أو جهوية أو إثنية أو لغوية أو دينية او لونية أو مذهبية. وثانيا: خلخلة المركب الحضارى متعدد العناصر. حيث يبدأ الحديث عن أفضلية عنصر على عنصر أو هيمنة منطق الأغلبية والأقلية على أسس دينية وإثنية عموما، على منطق تكامل العناصر وبدلا من أن يكون التنوع مصدر غنى للمجتمعات يكون وقودا للتفكيك. ماذا نحن فاعلون فى مواجهة ذلك؟ لابد أولا من الاستقواء « بالحالة التحريرية»؛أقصد بالحالة التحريرية الحالة الحراكية التى انطلق المصريون من خلالها معا من أجل تحقيق أحلام مشتركة فلقد استعاد المصريون فى ميدان التحرير درجة من درجات الاندماج الوطنى العابر للأجيال والطبقات والمختلفين جنسيا ودينيا. ففى التحرير اكتشف المصريون أن «الهم» واحد، وأن صعوبة العيش لا تفرق بين مصرى وآخر وحدهم شعار «كرامة انسانية / عيش وحرية سياسية / عدالة اجتماعية». وفى مجال العلاقة بين المصريين المسلمين والمسيحيين، سرعان ما اكتشفنا كم توحدنا المعاناة المشتركة. فرأينا صورا ونماذج للتعايش الوطنى تتجلى فى التحرير: مشاهد الأقباط الذين التفوا حول المسلمين لحمايتهم وقت الصلاة والعكس، والرموز الكلاسيكية للوحدة الوطنية المصرية «الهلال والصليب» والتى رفعت فى التحرير، وتم تجاوزها عمليا وفعليا من خلال اختلاط دم مينا دانيال وعماد عفت، ورفع الشعارات ذات الطابع السياسى والمدنى والاجتماعى والتى تجاوز بها المواطنون انتماءاتهم الدينية الأولية. مواجهتنا للمخططات التفكيكية تستكمل بمجموعة من الآليات(كنا وضعنا تصورا أوليا أسميناه آلية عبور فى ابريل 2011 وكان نواة لتأسيس مجلس العدالة) نوجزها فيما يلي: تأسيس مركز للإنذار المبكر حيث يستشعر الخطر قبل حدوثه ويضع التصورات المطلوبة لنزع فتيل الخطر ثانيا: دراسة ما أطلقت عليه «جغرافيا التوتر الديني»، وأقصد بذلك طبيعة المناطق التى تحدث فيها التوترات: اقتصاديا، وديموغرافيا،..،إلخ ثالثا: رصد مظاهر التمييز فى المجال العام والذى قد يشعل افعال ذات طبيعة تشاحنية رابعا: رصد التمييز فى الخطابات الإعلامية والثقافية والدينية والسياسية والتى تحول دون ممارسة الشراكة الوطنية أو تحرض عليها كذلك المناهج التعليمية التى تحرض على التمييز خامسا: الحرص على دمج المصريين فى العمليات السياسية والمدنية والانتاجية والثقافية،...،إلخ، دون تمييز. هكذا الحالة الثورية والنهضوية دوما تُجمع ولا تُفرق. حيث يتجاوز المصريون أى خلاف وتصير «الثورة إيمانهم» من أجل الحصول على الحقوق دون تمييز وهو ما تجسد فى كل ممارسة فى الميدان الذى صار «قبلتهم»...كما تصير المشروعات القومية الكبيرة موضعا للقاء بين كل المصريين كما كان بناء الدولة الحديثة وقت محمد على ومواجهة الرقابة الثنائية والعمل على الاستقلال الوطنى وقت 1919 وبناء الذات والذى كان تجسيده العملى السد العالى وقت ناصر...وأخيرا حلمنا بالنهوض وفق أسس حراك يناير:حيث الوطن بمواطنيه يحضر فى المشهد السياسي، وتمرد يونيو حيث الوطن ينتصر لنفسه فى مواجهة الجماعة...فيتحقق التكامل الوطنى بين المواطنين «عابر للزمن» و»مقاوم للفتن»...