أمير تاج السر، كاتب وروائى سودانى قادر على أن يبهر القارئ فى كل عمل له، فهو يناقش –فى عمل واحد- قضاياه الخاصة حتى تظن أنك أمام سيرة ذاتية، فإذا به يناقش أيضا قضايا مجتمعه وقضايا الوطن العربى، ويجمع ذلك كله فى نسيج واحد بلغة سلسة وأسلوب سهل تؤكد أننا إزاء مبدع من طراز فريد. قدم تاج السر للمكتبة العربية روايات يمكن اعتبارها النسخة السودانية والعربية من الواقعية السحرية التى تجمع الواقع بالتاريخ بالأساطير فى سرد يتكئ على موروثات الكتابة التاريخية والحداثية معا .وقد تجلى ذلك بوضوح فى "عطر فرنسي" و"توترات قبطي" وفى "مهر الصياح "التى نشرتها هيئة قصور الثقافة فى مصر مؤخرا, فى هذا الحوار يقدم امير تاج السر رؤاه حول فكرة الكتابة ، ويكشف متعتها وتعبها وكيف أنه حاول التوقف عنها مرات عدة لكنه فشل وهذا نص الحوار الذى استغرق إجراؤه مع الروائى الكبير شهرين كاملين من المراسلات عبر البريد الالكترونى لأن الحوار تم فى الوقت الذى كان فيه مشغولا بكتابة جديدة قلت إن السينما أداة ترويج للرواية.. ويخالفك الكثيرون بالتأكيد على أن السينما تقلل من عدد المقبلين على القراءة مما يؤثر سلبا على الرواية.. فما تعليقك؟ لقد استندت فى مقالى الذى كتبته عن هذا الموضوع إلى ما لاحظته من تزايد فى توزيع بعض الكتب التى تحولت إلى أفلام سينمائية، وذكرت بالتحديد فيلم "حياة باي" للكندى إيان مارتن، كانت روايته تلك قد حصدت جائزة البوكر البريطانية منذ عدة سنوات، وتُرجمت للعربية لكن أحدا من القراء العرب لم ينتبه إليها إلا بعد أن تحولت لشريط سينمائي. ومثل "حياة باي" هناك أعمال كثيرة تمت قراءتها بصدق بعد مشاهدتها سينمائيا أو تليفزيونيا، وأذكر رواية "السيد إبراهيم وزهور القرآن"، ورواية "صيد السالمون فى اليمن" وغيرها. الكتابة الروائية شكل من الإبداع والسينما حين تستند عليها، تعدل فى الشكل ويبقى المضمون ومعظم الحكاية واضحة للمتفرج وغالبا ما يسعى المتفرج المثقف أو المطلع ليقتنى الكتاب من أجل المقارنة. رغم أن كتابك الأخير "ضغط الكتابة وسكرها" يتكون من مجموعة مقالات، لكنه فى مجمله جاء قريبا من السيرة الذاتية.. فهل تعتبره سيرة ذاتية لك؟ هو سيرة كتابة وليس سيرة ذاتية بالمعنى المتعارف عليه. فى "ضغط الكتابة وسكرها" حاولت أن أكتب كل ما أعرفه عن الإبداع، عن تجاربى وتجارب غيري، ما أحببته من الشعر والرواية وما لم أحبه. كتبت ما اسميته خامات الكتابة، وهى بعض المواقف التى قد تتطور لدىَّ وتصبح روايات فيما بعد وقد لا تلهمنى بأى شيء. كتبت عن مفهومى للجوائز الأدبية، عن التحكيم فى تلك الجوائز ومن يستحق أن يكرم أو لا، باختصار شديد، كان "ضغط الكتابة وسكرها"، كتابا لا بد منه لواحد مثلى قضى خمسة وعشرين عاما فى سكة الكتابة. اعتبرت الكتابة منحة من الله، وأنها أيضا محنة وداء لا يسعى صاحبه للشفاء منه.. وأنها خطيئة يجنى صاحبها تبعاتها.. ما هى تلك التبعات؟ بالطبع لا أعنى تبعات أخلاقية إنما كنت أعنى الشقاء والانشغال الدائم، والمجاملات التى لا بد منها، والانصياع للضغوط والرجاءات حين يطالبك أحدهم بأن تقدم له شيئا. حقيقة هناك نوعان من الكُتَّاب المخضرمين، نوع يحصل على الجوائز والتكريم أينما حل، ونوع يؤدى خدمات للآخرين بلا أى مقابل، وأنا من النوع الثاني، لا أستطيع أن أرفض طلبا، حتى هذه الحوارات الصحفية تعبت من كتابتها وليس لدى وقت لكنى لا أرفض صحفيا يقصدنى شخصيا. أما محاولات الشفاء فهى صعبة، وشخصيا حاولتها مرارا ولم أفلح، توقفت مرة خمس سنوات كنت أقدم فيها تخصصا فى مهنتى وحين انتهيت، عدت جائعا لأكتب بشراهة. فقد زادنى الصوم عن الكتابة، جوعا لها. "بساطة الأسلوب" هو أكثر ما يميز كتاباتك ويجعلها قريبه من القارئ العادى وهو ما يتضح جليا فى كتاب "ضغط الكتابة وسكرها" .. فهل توافقنى على ذلك؟ نعم أسلوبى توصلت إليه منذ سنوات طويلة، وأظنه نفس الأسلوب الذى ولدت به، حيث تجد الصور الشعرية حاضرة، فقط تطورت كتابتى داخله، ولا أظنه أسلوبا بسيطا جدا، هو نوع من الكتابة تحتمل البساطة، مع شيء من التوابل، هكذا أعرف نفسي. أفصحت للمرة الأولى عن مصاعب واجهتك بسبب صلة القرابة بينك وبين "خالك" الطيب صالح.. وصلت لحد اتهامك بسرقة أعماله.. فكيف حدث ذلك؟..وما الذى يدفع البعض لهذه الاتهامات؟ لحسن الحظ لم يقل ذلك سوى شخص واحد، الغرض من ذكر ذلك الموقف، فى مقال القراءة المغشوشة، هو توضيح أن بعض الناس لا يقرأون ومع ذلك يتحدثون عن الكتابات، وضربت مثلا بذلك الناقد الذى شبه روايتى "مهر الصياح" برواية "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح وأى قارئ للروايتين يعرف تماما أن لا علاقة بهما لا من قريب أو بعيد. قلت إنك نجحت فى الوصول إلى التآخى بين الشعر والرواية.. ماذا قصدت بذلك؟ فى تجاربى الأولى كانت اللغة الشعرية مكثفة جدا بحيث تأكل كثيرا من الحكي، لكن بمرور الوقت واتساع التجربة حدث ثمة مزج ارتحت له بين الشعر والنثر وهى الطريقة التى أكتب بها حاليا ومنذ زمن، هذا هو التآخى الذى أقصده. فى رواية "مهر الصياح" قمت بالسباحة فى بحر الخيال دون أن تغرق فيه، ففى خضم أحداث مدينة خيالية تسمى (جوا جوا) وبطل خيالى يسمى "آدم نظر" وملك خيالى لا يسمع شعبه إلا عبر الصُيَّاح، لا يبتعد ذهن القارئ عن الواقع.. فكيف حافظت على هذا الخيط الرفيع بين الواقع والخيال؟ نعم، أعتقد أن كتابة الرواية أولا موهبة ثم ثقافة خاصة، وأخيرا تجربة، وأنا تجربتى فى السرد طويلة كما تعرف، ولذلك لم يكن من الصعب أن أحاول كتابة نص متماسك، لقد درست بيئة مهر الصياح جيدا، درست المجتمع والناس ونظام الحكم والمبانى السائدة، وحتى نوعية الأكل والشرب وما كان يباع ويشترى فى ذلك الوقت، وكتبت نصا تاريخيا موازيا يمكن إسقاطه على الواقع المعيش بسهولة. أنا أعتبر مهر الصياح من تجاربى الكبيرة، والحمد لله أنها نجحت سواء عند المتلقى العربى أو الأجنبى بعد ترجمتها للإنجليزية. قلت إن الأوطان هى ملح الكتابة، فكيف يمكن معالجة مشكلات الأوطان العربية بالكتابة؟ قلت هى ما يعطى الكتابة ملحها، فأى كتابة تأخذ من الوطن هى كتابة طاعمة، أخذت من تجارب الكاتب فى وطنه بلا شك، وأنا أستطعم مثل تلك الكتابة، أما معالجة مشكلات الأوطان فلا تجدى فيها كتابة، هى مشكلات تحتاج إلى مجهود كبير من الشعوب كى تحاول حلها. تستخدم تكنولوجيا شبكة المعلومات بشكل كبير فى نشر إبداعك والتواصل مع قرائك.. ولكن سهولة النشر الإلكترونى جعلت الساحة تمتلئ بأدب دون المستوى... فهل أفادت التكنولوجيا حركة الأدب أم أضرتها؟ التكنولوجيا، هى السلاح ذو الحدين بلا شك، فبقدر ما خلقت فضاء حرا للمبدعين يتنزهون فيه بإبداعهم، أعطت جزءا من هذا الفضاء لغيرهم كى يتمددوا عليه بلا شيء، نحن لا نحجر على الناس الكتابة فى الإنترنت والتنفيس عن أنفسهم بكتابة الخواطر، فقط حين يأتى تصنيف الأدب، لا يكون ذلك أدبا رفيعا.