يتداخل هذا الحوار مع حوار الملائكة, إذ كان آدم يسكن الجنة, وشاءت الإرادة الإلهية أن تجعله خليفة فى الأرض, وأعلم الله الملائكة بهذه المشيئة, وكان رأيهم أن آدم وذريته مجبولون على الفساد والإفساد, وشاءت الإرادة الإلهية أن تكشف لهم خطأ تقديرهم, وأن استخلاف آدم فيه من المصلحة أكثر مما فيه من المضار, فهو الأعلم بشئون الحياة الدنيا: «وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والأرض» (البقرة 31 33). ثم يدخل الحوار نسقا ثلاثيا: الله سبحانه آدم إبليس: «ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ما وورى عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين» (الأعراف 19 21). لقد مارس الشيطان مهمته الإغوائية, واستخدم فى الإغواء حجتين للتأثير فى آدم وحواء, الحجة الأولى: أن الأكل من الشجرة التى حرمها الله عليهما سوف يدخلهما زمرة الملائكة: «أن تكونا ملكين», بل يمكن أن يدخلهما منطقة الألوهية: «أو تكونا من الخالدين», أما الحجة الثانية, فهى القسم بالله: «وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين»، ولم يتصور آدم وحواء أن الشيطان يمكن أن يقسم بالله كذبا, وهذا الموقف يجعلنا نستحضر قول الملائكة عندما أخبرهم الله بأنه سوف يستخلف آدم وذريته فى الأرض, وكان قولهم: «أتجعل فيها من يفسد فيها» أى أنهم كانوا على علم بأن آدم وذريته فاسدون مفسدون, وقد ظهر أن لهم بعض الحق فيما قالوه, والدليل: أن آدم وحواء استجابا للغواية الشيطانية, وغاب عنهما التحذير الإلهى: «فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى» (طه 117 119). إن دخول آدم وحواء فى هذا الاختبار السماوى جعلهما بين سلطتين: السلطة العليا الإلهية والسلطة السفلى الشيطانية, وقد سقطا فى هذا الاختبار, ومن ثم جاء الأمر الإلهى: «فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين» (البقرة 36), وجاء الأمر بصيغة الجمع (اهبطوا) لأنه موجه لآدم وحواء والشيطان, وهنا تنبه آدم وحواء إلى خطيئتهما, وتوجها إلى الله قائلين: «ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين» (الأعراف 23), واستجاب الله لتوبتهما: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم» (البقرة 37). ومن الواضح أن الحوار مع آدم كان متعدد الشخوص, إذ شاركت فيه حواء, وإن كانت مشاركة صامتة, أى هى مشاركة بالفعل لا القول, كما تدخلت شخصية إبليس, وهو ما جعل الحوار حوارا بين سلطات: السلطة الإلهية المقدسة, والسلطة الإبليسية الشيطانية, والسلطة البشرية التى كانت وظيفتها استقبال وحى السلطة الأولى ووسوسة السلطة الثانية التى تمادت فى مواجهة السلطة المقدسة, وكان بداية التمادى فى رفض السجود لآدم, ثم وصل التمادى حدا إغوائيا لآدم وحواء ليأكلا من الشجرة المحرمة, وقد انتهى الحوار إلى نوع من المفارقة, فبالنسبة لآدم وحواء كان اعترافهما بالذنب وطلب المغفرة , وقد استجابت السلطة الإلهية لتوبتهما: «ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى» (طه 122), وبالنسبة لإبليس فقد طلب الإمهال, واستجاب الله لطلبه: «قال أنظرنى إلى يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين» (الأعراف 14, 15). والدرس الذى يقدمه هذا الحوار: أن الله قد أعطى للكائنات قدرا كبيرا من حرية الرأى والاختيار, ليكون الثواب والعقاب على قدر هذا الاختيار, وهو ما تابعناه فى سلوك آدم وحواء من ناحية و وسلوك إبليس من ناحية أخرى, وهو ما يعنى أن الحرية المتاحة, هى الحرية المسئولة المحاطة بالقانون السماوى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» (الزلزلة 7 , 8). لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب