هاربا من هموم الدنيا وبلاوي الزمان. جالسا وحدي علي شاطيء فرع دمياط الذراع اليمني لنهر النيل العظيم.. عند بلدتي ومسقط رأسي.. القناطر الخيرية.. والشمس من خلفي تعبت وفقدت طول نهار قائظ حار كل طاقتها من الحرارة والسخونة وها هي أمام عيني تستعد للاختباء عند خط الغروب.. لتهبط إلي بحر الظلام في رحلة ليلية كما كان يعتقد ويؤمن الأجداد العظام في الزمان الغابر.. جالسا وحدي تحت ظلال شجرة توت عتيقة.. ممسكا بسنارتي التي كانت لا تفارقني في أيام الاجازات في صباي وحتي خريف عمري.. لأجري حوارا جميلا ممتعا بسنارتي مع أسماك النهر العظيم منها من يرد لرجائي وكثرة سؤالي.. ومنها من يمتنع ويهرب إلي شباك صياد عجوز هدَّه الزمان وغسلته الأيام وأكل عليه الدهر وشرب كما علمونا صغارا في كتب المطالعة الرشيدة لنكبر نحن ليكرر معنا الدهر ما فعله يومها بالصياد العجوز! السنارة أمامي غارقة في الماء وأنا جالس وحدي أترقب وأتعجب ونحن نملك هذا النهر العظيم.. وعفريت حبشي في آخر الدنيا لسنا علي باله ولا مررنا يوما بخياله.. يريد أن يحبس عنا ماء الحياة لنموت عطشا حتي آخر الزمان الصعب.. ونحن عنه لاهون بهموم لقمة العيش ورفع أسعار المحروقات كما يسميها الإخوة العرب بعد رفع الحكومة يدها عنها بالدعم.. ولكن القيادة السياسية وعينها ساهرة ويقظة لأفعال من شاء قدرنا أن يمسك بمحبس المياه في أقصي الجنوب ونواياه الخبيثة أو الطيبة.. لترد كيده إلي نحره.. قبل أن نجوع ونعطش.. أين ذهب السمك يا تري؟ أنا أسأل نفسي.. ويبدو أنني قلتها بصوت عال.. ليفاجئني من خلفي صوت رجل ممن هدهم الدهر وأكل عليهم وشرب..كما علمنا المخضرمون من مدرسي النحو والصرف في مدارسنا زمان يقول لي وهو يستعد للجلوس إلي جواري في ركني الظليل تحت شجرة التوت العتيقة: السمك يا عزيزي زهق منا ومن أفعالنا في بعضنا البعض.. زيادة في الأسعار ونحافة في الرواتب والدخول وتوحش في البلطجة وصناعة الجريمة وخلل في منظومة الأمن.. ولصوص كبار يرتدون الريدنجوت والبلاك تاي.. نهبوا أموال البلد وخيرها كله وهربوا بها إلي بلاد الفرنجة التي تحميهم قوانينها من إعادة ما سرقوه وما نهبوه من أموال وعرق هذا الشعب الطيب المغلوب علي أمره.. ليتركوا لنا اقتصادا مهلهلا وخزينة خاوية علي عروشها.. وقفت لأري وأشاهد صاحب هذه الكلمات المعبرة بحق وصدق لما جري ومازال يجري.. وصاحب الصوت نفسه لم يتوقف عن الكلام وهو يحمل هو الآخر علي كتفه سنارة عتيقة مثل سنارتي التي ربما كان والله أعلم سيدنا نوح عليه السلام نفسه.. يملك سنارة مثلها قبل الطوفان وبعده! بادرني الزائر الكريم الذي جاء يؤنس وحدتي في زماني هذا وجلستي هذه بقوله: أنا اسمي جرجس أفندي هكذا ينادونني.. جارك القديم في شارع نهضة مصر في القناطر.. وكنت زميلك في المدرسة أيامها.. وقد فرقت هموم الدنيا بيننا.. وأنا الآن علي المعاش.. ولم أعرف أنني سأراك هنا في نفس منزلك القديم علي شاطيء النهر العظيم.. تصطاد كما كنا نفعل رفاق فصل واحد وتختة واحدة ونهر واحد.. قلت له معانقا إياه: أهلا يا عم جرجس فينك وفين أيامك؟ قال: الأولاد هاجروا إلي أستراليا وسابوني وحدي.. قلت: ولسه غاوي صيد زيي يا عم جرجس؟ قال: إنها سلوتي الوحيدة في دنيتي الآن بعد أن سابتني أم الأولاد وتركت الدنيا كلها واختارت جوار السيد المسيح جارا ومقاما بدلا عني! قلت مواسيا: ونعم الجيرة ونعم الجوار ونعم المقام يا عم جرجس.. قال: الحمد لله علي أي حال.. قلت لعم جرجس وقد استقر في مقعده تحت الشجرة إلي جواري كما كنا نفعل زمان قبل نحو نصف قرن: ياه.. الأيام تجري سراعا ونحن لا ندري.. قال عم جرجس وهو يلقي هو الآخر بسنارته مثلي في الماء: ولكن الأيام ليست مثل الأيام.. ولا الناس.. هم الناس.. كل شيء تغير وتبدل حاله وانقلب منواله! قلت له: إزاي يا عم جرجس؟ قال: الناس أصبحت كما الوحوش في الغابة.. كل واحد يريد أن ينقض علي الآخر ويبتلعه كله كما تبتلع أفعي الأناكوندة الإنسان بحاله في غابات الأمازون.. الناس يا عزيزي تغيرت وتبدلت وغيرت جلدها وخلعت أقنعة الحب والسلام والحنان والرحمة وأرتدت أقنعة الشياطين والمردة والجان! وأصبحت السرقة والنهب والكذب شرفا.. والرحمة والأدب وحسن الخلق ترفا.. إذا كان السيد المسيح قد نصحنا بأن ندير خدنا الأيسر لمن ضربنا علي خدنا الأيمن.. وإذا كان نبيكم الكريم قد أوصي بالرحمة وحسن الجوار وإيتَاء زي القربي والعطف علي اليتامي وأبناء السبيل.. فإن الناس الآن أصبحت تري أنه لا ضرر أبدا ولا ضرار.. لو سطوت علي جارك.. لو اغتصبت أو اعتديت علي بيته وشرفه وشرف زوجته وبناته.. يقولون لك الآن انها جدعنة وشطارة وفهلوة ولا ضرر منها لو فعلتها ولا ضرار! قلت له: موش للدرجة دي يا عم جرجس؟ قال: اسكت يا راجل.. دانا مبقوق وعلي آخري من عمايل الناس.. يسرقوا ويقولوا حاجتنا احنا.. وينهبوا ويقولوا شطارة.. وفهلوة.. والبنات انفلت عيارها والأب آخر طناش والأم تداري ولا تداوي علي ألعاب وملاعيب بناتها المنفلتات العيار.. يا عزيزي لقد أصبحت الحرية والانحراف الخلقي مبدأ وشعارا وأصبح الفساد منهجا وكتابا مقررا علي الكل وبعلم الكل! ............. ............. قلت للعم جرجس وسنارتي مازالت تطفو فوق سطح الماء بلا أمل في صيد.. بعد أن هجرها وهجرنا السمك إلي غير رجعة: ترجمة كلامك يا عم جرجس تجده علي شاشة التليفزيونات المصرية في الشهر الكريم.. آخر قلة أدب وآخر ردح.. واحدة تقول للثانية وهي تتقصع وتغمز بعينيها: جري أيه يا مره.. بفتح الميم والراء يعني يا امرأة يا.. ثم نطقت بكلمة يندي لها الجبين.. وللأسف فقد سمعها وشاهدها كل من في البيوت المصرية من بنات وستات وأمهات! قال عم جرجس: وطبعا الرقابة علي المصنفات شافت ان ده عادي ومافيهوش أي عيب .. والكل مبسوط والظاهر أن احنا بس اللي محبكينها حبتين! قلت: ومافيش حد احتج ولا قدم شكوي ولا بلاغ للنائب العام بايقاف مسلسلات قلة الأدب والتجرمة من الفضائيات.. ولا حد من لجنة كبار العلماء في الأزهر الشريف قدم استجواب للحكومة علي هذا الانتحار الأخلاقي.. وكأن شيئا لم يكن!! وعدي رمضان بمسلسلات قليلة الأدب ومسلسلات تشوه التاريخ المصري.. وجه العيد وكل سنة وانتم طيبون عديها لديها متبقاش حنبلي بقي! قال: وكمان الكنيسة عندنا ماحدش سمع صوتها وماحدش رفع صوته وقال: بطلوا بقي قلة أدب وانحدار اخلاقي! قلت: افتكر فيه حد من الكاتدرائية المرقصية في العباسية احتج علي ما يحدث علي الشاشة الصغيرة في رمضان! ............. ............. ولأن عم جرجس مسعد ومبخت برفع الميم في الأولي والثانية فقد سبقني واهتزت صنارته بسمكة بلطية صغيرة لكن جميلة.. خرجت من الماء تلمع »وتلعلط« في ضوء آخر شعاع لشمس الغروب صفق عم جرجس فرحا وكأنه طفل صغير فاجأه أبوه بلعبة »الاراجوز المتكلم«.. وقال لي: شوف يا عمنا.. أنا شايف أن الريس عبدالفتاح السيسي عمال يدور ويدعبس علي قرش من هنا وجنيه من هناك ودولار من هنا ويورو من هناك عشان يرقع ويلم خروم ونقدية الميزانية المصرية.. يلمها من هنا.. »تتدلدق« من هناك.. ما هو ثوب الاقتصاد المصري اللي ورثه كله الآن ثقوب وعيوب لا يسد بابا ولا يستر عورة ولا يعالج عيوبا! قلت له: ازاي يا ايها الطبيب المداويا؟ قال: البلد عاوزة فلوس عشان المشروعات وعشان تشغل الشباب.. ولما الشباب يشتغل والبنات تتجوز وتجيب لنا أولاد وبنات والعائلة المصرية تكبر أكثر وأكثر.. لكن من غير فقر ولا يحزنون.. بعد ما وصل زي ما انت عارف معدل الفقر في المدن إلي 32 في المائة من عدد السكان وده رقم كبير ومؤشر موش كويس! وكمان الدولة عاوزة فلوس عشان تشغل الشباب العطلان اللي قاعد ملقح علي القهاوي ليل نهار والشيشة والمعسل خرب وشخلل صدره موش الأولاد بس.. البنات كمان مع الأولاد عمالة تتركع في الشيشة حتي نص الليل علي الكافيهات اللي خربت بر مصر كله.. اتفرج ياسيدى علي البنات قاعدة علي الكافيهات تتكركع في شيشة التفاح ومعسل القص! ............... ............... فجأة يتحرك بندول الحظ ناحيتي.. ترك سنارة عم جرجس واشتبك مع سنارتي بسمكة ثعبان خرج من الماء يتلوي ويتألم. قال عنه عم جرجس وهو يخلصه من السنارة: والنبي فيه شبه كتير من ناتنياهو اللي عمال يتشطر بس علي شعب فلسطين الغلبان في غزة وبيضربهم بطيارات الأباشي وال اف 16.. حتي الأهالي الذين اختبئوا في الكنائس ومدارس »الاونروا« التابعة للأمم المتحدة .. لم يسلموا من عدوانه عليهم بالمدافع والطائرات! اسأل عمر جرجس: والحل ايه يا عمنا؟ قال: أنا عندي روشتة كتبتها لإنقاذ مصر وطبعا حضرتك ممكن توصلها للريس السيسي قلت: يا سلام بس هي فين الروشتة دي؟ قال: سأقرأ لك بعضا منها: أول حاجة يا عزيزي نعمل ضريبة علي التليفون المحمول.. ولو تعرف أن الشعب المصري كله الآن يتحدث في المحمول ليل نهار.. تصور نحو 60 مليون مواطن يتحدثون ليل نهار في المحمول في الكلام الفارغ والرغي والانجراف الخلقي والجريمة بكل أنواعها.. وفي كلام من نوع: طابخة ايه النهاردة يا فردوس يا حبيبتي والعيال لسة بيلعبوا في الشارع.. موش قادرة تطبخي النهاردة.. مايضرش.. اطلبي أكلة ديلفري لحد اما آجي! تري كم تكلفنا هذه المكالمات التافهة وهذا اللغو الفارغ؟ الجواب: 30 مليار جنيه تأخذها شركات المحمول من دم وأعصاب وعمر الشعب المصري المغلوب علي أمره.. تضيع في الهواء.. وعجبي! ومازلنا مع عم جرجس وروشته العجيبة!{ لمزيد من مقالات عزت السعدنى