ابن العشرين عاما.. نحيل البنية.. سريع الحركة.. حليم.. يعطف على الكبار والصغار.. يشفق على الحيوانات.. شديد البر بوالديه.. حنون على شقيقاته.. يهوى السباحة بشكل كبير.. دمث الخلق.. محبوب لدى الجميع.. يترك ابتسامة حنونة حين يمضى تجعل أهل المجلس يدعون له فى غيبته، كان شابا ناجحا لديه حلم وأمل كبيران فى أن يصبح لبنة أو حتى ذرة رمال فى بناء وطنه الحبيب. عندما كان يسأل وهو طفل .. ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر وتتخرج من الجامعة؟ .. سرعان ما يجيب بفرحة عارمة صارخا بأعلى صوت ويقول «حاطلع مهندس»، ظل يكافح ويجتهد ويحصل دروسه بجد وتفوق حتى يتمكن من تحقيق حلم عمره ويسعد أبويه، وقد كان وحيدهما على ثلاث بنات، كان سندا لأبويه فى الدنيا ولإخوته البنات بعد عمر طويل للوالدين. كان هادئ الطباع حسن الخلق حلو الكلام، مقداما على فعل الخير، يحب مساعدة الجميع، يشعر بسعادة غامرة عندما يشعر أنه سبب فى إسعاد غيره وتقديم يد العون لكل محتاج، بخلاف أبناء جيله ممن هم فى مرحلة الثانوية العامة، الذين يأمرون آباءهم وتجاب كل رغباتهم فى التو واللحظة مقابل التركيز فى دراستهم والخروج من عنق الزجاجة بسلام ونجاح والالتحاق بأعلى الكليات الجامعية، باعتباره حلم و أمل كل أسرة مصرية. اجتهد الشاب كثيرا وفعل كل ما بوسعه كى يحافظ على تفوقه العلمى، واجتاز مرحلة الثانوية العامة بتفوق، والتحق بالكلية التى حلم بها طيلة حياته، وحقق حلم أبويه فالتحق بكلية الهندسة بجامعة المنصورة، تلك اللحظة التى شعر فيها أبواه بأن تعبهما وسهرهما ليالى طوالا لخدمة ابنهما لم يذهب هدرا بل كلل مجهودهما بنجاح ابنهما عندما التحق بكلية الهندسة، وسيصبح مهندسا ناجحا. ذهب للتنزه مع أصدقائه ورفاقه فى الدراسة وقرروا أن يتوجهوا إلى شاطئ جمصة، كى يكافئوا أنفسهم على تعب الأيام وسهر الليالى التى قضوها فى مرحلة الثانوية العامة، قضوا معا يوما سعيدا يملؤه البهجة والمواقف المضحكة بين الأصدقاء، لكن هذا الشاب لم يعلم ما كان يخبئه له قدره، ولم يعلم أنه ذهب إلى نهايته لا إلى متعته، عندما شاهد وهو يسبح فى البحر سيدة فى عمر والدته تصارع الأمواج وهى تغرق، فلم يفكر فى أى شىء ولا حتى فى نفسه بل كان كل همه كيف ينقذها وقد رأى أمه فيها. البحر كان عاليا شديد الأمواج، ورغم ذلك، وبعنفوان الشباب، ظل يسبح متحديا موجه القوى بساعديه النحيلتين، حتى اقترب من السيدة التى أوشكت على الغرق، وبفضل الله تمكن من الوصول إليها وأمسك بيدها وساعدها حتى تمكنت من الوقوف على قدميها والخروج من مياه البحر، وما هى إلا فترة قصيرة، بل لحظة أقصر من غفوة رمش العين، حتى أضناه التعب من كثرة مواجهته لأمواج البحر المتلاطمة، فرأى الموت بعينيه لا محالة. لم يفكر أحد فى مساعدة الشاب، فالكل قد واجه الموت فى لحظة، ولا هم له سوى النجاة بنفسه، اشتد الموج ومن موجة لأخرى، خارت قواه، وتعب ساعداه النحيلن، وآن للفارس أن يترجل، وللجواد أن يسقط، بعد أن نظر حوله لعله يجد أحداً يساعده، وبعد أن ظل يصرخ وينادى على أصدقائه كى ينقذوه من الغرق، لكن الصراخ كان سيد الموقف والمكان، فمن تعثر أو زلت قدماه فى البحر لا يتمكن من النهوض أبداً. لم يصدق أصدقاء الشاب أنه غرق وأنه فارق الحياة وأنهم لن يتمكنوا من رؤيته مرة أخرى، وأنهم لن يرافقوه إلى الجامعة ولن يضحكوا ويأكلوا سويا، ظلوا يهرولون يمينا ويسارا يستنجدون بأى شخص كى يتمكن من استخراج جثة صديقهم بعد أن أدركوا الحقيقة المرة بأنه قد فارق الحياة غرقا فى البحر، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل. وبعيدا عن موقع الحادث، شعرت الأم بانقباض شديد ولم تقو على التقاط أنفاسها بشكل طبيعى، فأخبرت زوجها بأنها شديدة القلق على ابنها وتريد أن تسمع صوته كى تطمئن عليه، وبالفعل قاما بالاتصال على هاتف ابنهما ولكن لم يرد عليهما أبدا، فازدادت الأم قلقا ورعبا على ابنها وظلت تهاتفه عشرات بل ربما مئات المرات دون جدوى، عندئذ قام الأب بالاتصال على أحد هواتف أصدقاء ابنه، حتى جاءته الطامة الكبرى عندما علم بنبأ وفاته غرقا فى البحر. ومن يجرؤ على أن يخبر الأم بوفاة فلذة كبدها؟! بل من يجرؤ على أن يقول لها ان قرة عينها قد مات وانها لن تراه مرة أخرى؟! ومن يجرؤ أن يخبرها أن البحر قد ابتلعه وانه لا سبيل حتى إلى جسده؟! سقطت الأم حين سمعت الخبر مغشيا عليها وأصيبت بصدمة عصيبة عندما علمت بأن ابن عمرها مات غريقا فى البحر، واستبعدت الأمر برمته، نظرا لأن ابنها كان يجيد السباحة، لكن من يقو على مواجهة ساعته؟ هرول والد الشاب الغريق من المنصورة إلى شاطئ جمصة باحثا عن جثة ابنه الوحيد، كتم الأب دموعه، وصبر واحتسب ابنه عند الله، حتى وصل إلى شاطئ البحر الذى اختطف منه فرحة عمره، لعله يظفر بلحظة وداع أخيرة تثلج قلبه المحترق بنار فراق ابن عمره. دقت الساعة تمام الثانية عشرة، وانتصف الليل، ووقف الأب ناظرا إلى البحر بنظرة مغلفة بكآبة منظر البحر ليلا، فى انتظار ظهور جثة ابنه الغارقة فى مياه البحر، بعد أن بحث فى كل مكان على أمل العثور عليها، وقف ساعات ظل خلالها الجميع يبحثون عن جثة الابن الغارق دون جدوى، حتى جهود الغواصين المحترفين وفرق الإنقاذ الذين أمضوا ساعات فى البحث عنه لم تفلح وباءت جميعها بالفشل، فى ظل وجود مئات المتجمهرين ما بين رجال شرطة .. ورجال إنقاذ .. ونساء يبكين هذا الشاب الذى لا يعرفونه والذى ضحى بعمره كى ينقذ حياة سيدة . ظل هذا الحال عدة أيام، وسط دعاء الوالدين بأن يمن عليهما الله بالعثور على جثة نجلهما حتى طفت جثة الابن على سطح البحر، فاختلطت حينها مشاعر الأبوين بين حزنهما على فراق ابن عمرهما، ومشاعر فرحتهما بالعثور على جثته بعد عدة أيام من غرقه، كى يطمئن قلبهما ويدفناه ويشيعان جنازته فى مقابر العائلة بالمنصورة، بعد أن صرحت النيابة بدفن الجثة. استلم والد الشاب شهادة وفاة ابنه بدلا من استلام شهادة تخرجه من الجامعة وقبل أن يحقق أمله فى أن يصبح ابنه مهندسا يفتخر به فى حياته،لكنه سيظل يفخر بابنه بعد مماته لأنه مات شهما وضحى بحياته من أجل إنقاذ روح أخرى، واستحضر الأب المكلوم مشهد ابنه ذى العشرين عندما كان شابا أنيقا، يختار ملابسه بنفسه، لكنه الآن راقد أمامه على منضدة الغسل مرتديا ملابس الموت، هذه المرة ليست بنطلونا، ولا قميصا مثلما اعتاد، بل ارتدى كفنا أبيض ليس له جيوب، وليس له أنواع ولا أزياء، وشيع الأب ابنه وحلمه إلى مثواهما الأخير. فليس العجب فى أن يموت ابن العشرين، وتعيش السيدة ذات الأربعينيات من عمرها والتى أوشكت على الغرق، لولا تدخل العناية الإلهية والشاب الذى لقى حتفه لإنقاذها.. فالموت يدرك حتى من هم فى الأرحام ولكن تأتى العبرة حين نرى مثل هذه النهايات.