سعى قادة ثورة يوليو 1952الى بناء تنظيم سياسي قابل للتطور والتغير تتحقق من خلاله مبادئ الثورة . ورأى قادة الثورة انه من الضرورى قبل الشروع فى أقامة البناء السياسي الجديد لابد من التمهيد الجيد للبنية التحتية لهذا النظام ، فاتخذوا عددا من الإجراءات التى من شأنها محاصرة قوى النظام القديم ، و التى من بينها إسقاط دستور 1923 ، وحل الأحزاب السياسية. وتطهير مؤسسات الدولة المختلفة كالجيش والشرطة وأجهزة الخدمة المدنية ، وحل مجلس نقابة الصحفيين ، وحرموا النشاط السياسي فى الجامعات ، وأصدرت دستورا مؤقتا ، على أن يستمر العمل به حتى نهاية الفترة الانتقالية . وعندما ألغى مجلس قيادة الثورة الأحزاب بات من الضرورى البحث عن البديل الذى يحقق أهداف الثورة ، فكانت هيئة التحريروالتى ترجع فكرة إنشائها إلى الرئيس جمال عبد الناصر قبل الثورة ، وجرت مشاورات إنشائها فى نادى الضباط ، و أعلن قيامها رسميا فى 23 يناير 1953، و شهدت القاهرة احتفالا أقيم فى الفترة من 23-26 يناير 1953 ، بمناسبة مرور ستة أشهر على نجاح الثورة ، اقيم فى ميدان الاسماعيلية ، «ميدان التحريرالآن» وخلال الاحتفالية أعلن قيام هيئة التحرير ، يتضمن شعار الهيئة ، الاتحاد والنظام والعمل ورفرف علم التحرير ، واستبدل النشيد الوطنى الملكى بنشيد جديد ، ثم افتتح المقر الرئيسى للهيئة فى ثكنات الحرس الملكى فى ميدان عابدين فى 6 فبراير 1953. وأصبحت هيئة التحرير التنظيم السياسي الشعبى الوحيد الذى خرج من عباءة الجيش و حرص عبد الناصر فى خطاباته على تأكيد أن الهيئة ليست حزبا سياسيا يجر المغانم على الأعضاء أو يستهدف شهوة الحكم والسلطان ، وإنما هى أداة لتنظيم قوى الشعب ،ولعبت هيئة التحرير دورا هاما فى حشد الجماهير ، وربطت بين قيادة الثورة وبين الجماهير حيث دعمت القيادة فى حل مشكلة السودان فى 24 فبراير ، 1953 بالاتفاق مع بريطانيا مما كفل للسودانيين حق تقرير مصيرهم ، كما حشدت الجماهير حول القيادة فى تصميم كامل على تصفية القاعدة البريطانية وإجلاء المستعمر ، حتى تم فى النهاية توقيع اتفاق الجلاء المبدئي فى 27 يوليو 1954 ، وقد استخدمت الهيئة خلال أزمة مارس 1954 ، على نحو ما هو معروف لتصبح طرفا فى ترجيح الصراع لمصلحة مجموعة جمال عبد الناصر ، ضد محمد نجيب ومؤيديه. وكان من أهم أوجه الضعف التى عانت منها هيئة التحرير ان سيطر الجيش على الهيئة كانت واضحة ، ولأن الهيئة قد شكلت من جانب السلطة الحاكمة ، فكان أمرا واضحا أن تستخدم لخدمة السلطة التى أقامتها وقد استخدمت الهيئة خلال أزمة مارس 1954، وسرعان ما تبين أن القيادة تتولى كل شىء بنفسها ، وأن الهيئة التى أقامتها ليس لها تأثير على مجريات الأمور أو فى نقل رغبات المحكومين إلى القيادة ، ولم يقدر لها أن تلعب دورها كتنظيم سياسى شعبى. و اثناء هذه الفترة الانتقالية ، تغير نظام الحكم وأدواته ، بفعل عدد من الأسباب من بينها جلاء الانجليز عن مصر نهائيا ، تأميم قناة السويس ، ودحر العدوان الثلاثى ، وقبل ذلك كانت مواقف جمال عبد الناصر الوطنية فى مؤتمر باندونج ضد الأحلاف العسكرية ، وكسر احتكارات السلاح ، تأكيدا للاستقلال الوطنى ، وإعلان عبد الناصر الدستور الجديد فى يناير 1956 ، ساهمت هذه الأسباب فى ارتفاع شعبية جمال عبد الناصر فكان انتخابه رئيسآ من خلال الاستفتاء العام أمرا طبيعيا ومنتظرا فى 25يونيو 1956 ، فأصبح المرشح الوحيد لدوره السابق الذى جعل انتخابه مدشنا بإرادة شعبية جارفة ووصل قائد الضباط الأحرار ، ورئيس مجلس قيادة الثورة إلى منصب رئيس الجمهورية ، وفى أواخر عام 1956 ، عقد مجلس قيادة الثورة اجتماعا مغلقا فى احدى دور العرض بوسط القاهرة وأصدروا قرارا بحل مجلس قيادة الثورة على أساس أنه حقق مهامه الخاصة بالاستيلاء على السلطة وتوطيد دعائم النظام الثورى . وجاء دستور 1956، ليمنح جمال عبد الناصر سلطات كانت هى فى الواقع فى قبضته ولكن ليسبغ عليه صفة القانون والدستور وفى 2 من ديسمبر عام 1956، ألغيت هيئة التحرير رسميا ونقلت ملكية فروعها بعد تصفيتها فى المدن والإقليم إلى الاتحاد القومى الذى نص على تأسيسه دستور 1956، ويهدف الاتحاد لتحقيق الديمقراطية السليمة ، فهو يجعل لكل عضو فى لجان القرى حق مناقشة ما يهم قريته كأحد مواطنى القرية وما يهم البلاد كلها ، والاهم من ذلك أن الاتحاد القومى سيعمل على تخطيط السياسة العامة للبلاد وستقوم الحكومة بتنفيذ هذا التخطيط. ولكن لم تستكمل تنظيمات الاتحاد القومى كما هو مأمول ، واقتصر دوره على تلك المؤتمرات الشعبية التى حققت شيئا من الالتحام بين الشعب والحكومة ، وعملت على حل مشاكل الجماهير، لكن الوظيفة الحقيقية للاتحاد لم تكن هى تحقيق هذا الهدف رغم أهميته ، فلم يستطع بحكم ضعف تنظيمه أن يقوم بدور سياسي مستقل عن أجهزة الدولة ، أو كان له أثر محسوس على سلطات الحكم ، وقد اعترف جمال عبد الناصر بذالك فى مناقشات المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية فى يوليو 1961 ، وإن أرجع ذلك لافتقاده ايديولوجيا واضحة أو «عدم تبلور دليل للعمل الثورى » . نظرا لعوامل الضعف التى ألمت بالاتحاد القومي وعدم تطوره بما يتماشى مع استحقاقات الثورة وما طرأ عليها من تغيرات ، ونظرا لتطور المفاهيم وتداخلها وعد م وجود تفسير واحد متفق عليه لتلك المفاهيم . بدأ عبد الناصر فى هذه المرحلة بالتوجه الاشتراكى الصريح من خلال إصداره سلسلة من القوانين المفاجئة ، تخطت بها القيادة السياسية كل الأطر الدستورية والقانونية التى كانت قائمة وبها قطعت الإمداد التلقائي للمرحلة السابقة «52 19-1961» وكان التفسير وراء هذا التحول نحو إصدار قرارات التأميم والتحول الاشتراكي الصريح ، هو أحجام الرأسمالية المصرية الكبيرة عن الإسهام فى دعم الاقتصاد القومى وعدم اشتراكها فى خطط التنمية . وفى 25 نوفمبر 1961، أصدر عبد الناصر بيانا أعلن فيه تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطنى للقوى الشعبية ، وقدم جمال عبد الناصر إلى المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية وثيقتين « الميثاق – و قانون الاتحاد الاشتراكى العربى» ، وكان الميثاق أول دليل عمل مكتوب لثورة يوليو. وكان الاتحاد القومى ثانى تنظيم للثورة بعد هيئة التحرير يتشكل ثم ينفض ، وتكون بدلا منه الاتحاد الاشتراكي العربى فكان منطقيا تماما بعد قوانين يوليو 1961، أن يصدر قانون الاتحاد الاشتراكى . أما البناء التنظيمى للاتحاد فإنه أخذ بما يسمى المركزية الديمقراطية ، فتبدأ تشكيلاته من الوحدات الأساسية ، وتصعد بها حتى المؤتمر القومى العام للاتحاد ، الذى ينتخب اللجنة المركزية ثم اللجنة التنفيذية العليا . وخرج من رحم الاتحاد الاشتراكى ثلاث تنظيمات فرعية تعمل فى أطار الاتحاد الأم وهما جهاز» طليعة الاشتراكية و جماعة الدعاة ومنظمة»الشباب الاشتراكى « و هى فى مجموعها لا تخرج عن الخط السياسي والفكرى للتنظيم الجامع. فبالنسبة لطليعة الاشتراكيين فقد نص الميثاق على ضرورة إنشائها واسماها الجهاز السياسى داخل التحالف ، ليجند العناصر الصالحة للقيادة وينظم جهودها ويبلور الحوافز الثورية للجماهير ، وفيما يتعلق بتنظيم الدعاة ومنظمة الشباب الاشتراكي فترجع نشأتهما إلى الخلاف الأساسي الذى انطوت عليه قيادات الاتحاد الاشتراكي وتنظيمه الطليعى وهى خلافات ذات طابع ايديولوجى بشكل رئيسى و لم يكن تنظيما بالمعنى الفنى فى مواقع الجماهير ، أما منظمة الشباب الاشتراكى ، فكانت محاولة جديدة لتطوير النظام من الداخل ، شأنها شأن التنظيم الطليعيى. وفى مايو 1964، صدر الدستور المؤقت و اعتمد الدستور المؤقت على مواد الدستور السابق «1956» من حيث المقومات الاساسية للمجتمع وإن كانت قد أضيفت مواد جديدة تتفق وتوجهات النظام الاقتصادية وتبلور نظرته الاجتماعية معلنا لأول مرة فى تاريخ الدساتير المصرية ما يأتى «الجمهورية العربية المتحدة دولة ديمقراطية تقوم على أساس تحالف قوى الشعب العامل» والمادة التاسعة منه تنص على أن النظام الاقتصادى للدولة هو النظام الاشتراكى. وتنص المادة 12 على سيطرة الشعب على أدوات الانتاج وتوجيه فائضة وفقا لخطة التنمية التى تضعها الدولة والمادة 10 تنص على أن يكون توجيه الاقتصاد القومى بأكمله وفقا لخطة التنمية التى تضعها الدولة . وأدت أحداث يونيو1967، إلى ضرورة إعادة التفكير فى إعادة بناء الدولة بما يستجيب لتداعيات ما بعد الهزيمة ، سواء لإعادة بناء الجيش أو لتفادى عثرات البناء السياسى السابق ، فأصدر عبد الناصر بيانا للعمل الوطنى فى 30 مارس 1968، حمل يوم صدوره واشتهر به ، ثم جرى الاستفتاء عليه فى 2 مايو 1968، وقبله الشعب أملا فى التغيير ، وجاء فى مقدمة البيان التنظيم السياسى ، فأبقى على الاتحاد الاشتراكى العربى باعتباره «أكثر الصيغ ملائمة لحشد القوى الشعبية « وأفاد بأن المشاكل التى عاناها الاتحاد لاترجع إلى قصور أو عيوب فى صيغته العامه وإنما ترجع إلى التطبيق، وتقرر إعادة بنائه بالانتخاب ، على أن يظل مؤتمره القومى العام قائما إلى ما بعد إزالة أثار العدوان. وقد طرحت فى مارس 1970 فكرة تعديل الميثاق عندما طرح أحد أعضاء مجلس الأمة هذا الأمر ، ولكن عبد الناصر أشار فى تعليقه إلى أن المرحلة التى تمر بها البلاد حاليا تجعل تماسك الجبهة الداخلية أمرا فى غاية الأهمية ولا ضرورة لتعديل الميثاق ألا بعد إزالة آثار العدوان ، وبالفعل انصرف عبد الناصر بكل كيانه للاشتغال فى أعادة بناء الجيش ، وإدارة حرب الثلاث سنوات مع قادة جيشه الجدد «الاستنزاف» حتى وافاه الأجل عشية يوم 28 سبتمبر 1970 ، لتنطوى صفحته ، وتتوقف بنا التجربة عن متابعتها .