من البداية لنتفق على ثلاثة أمور جوهرية، الأول أن وزارة الداخلية على مر العصور لم تكن تحظى بشعبية جارفة وقبول بين عموم الناس معظم الوقت، لأنها الجهة المنوط بها تنفيذ القانون، والعمل على تحقيق مبدأ الانضباط ومعاقبة المخالفين، وكما نعلم فإن النفس البشرية بطبيعتها فى حالة تنافر مع فكرة الالتزام بالضوابط والقواعد الحاكمة للسلوك العام، فهى تميل أكثر لجانب الانفلات، فضلا عن الانطباع السائد عن الشرطة بأنها عصا السلطة الغليظة المرفوعة دائما فى وجه الشعب. الأمر الثانى أن جزءا من متاعب مصر فى لحظتها الآنية الفارقة يتمثل فى تعرضها لمحاولات متواصلة هدفها الاساسى هدم مؤسسات الدولة أو على أقل تقدير التشويش عليها واعاقة حركتها، وفى مقدمتها تلك المنوط بها المحافظة على الأمن والتصدى للهجمة الإرهابية الشرسة التى تواجهها البلاد وتؤازرها وتمولها جهات خارجية لا تبغى الخير والاستقرار لوطننا. الأمر الثالث أن كل مؤسسة فى الدولة ليست فوق القانون، ولابد من خضوغ المسئولين عنها للمحاسبة، إذا وقع منهم أى خطأ يخالف القانون ومبادئ حقوق الانسان الواجب احترامها والحرص عليها. ارتكانا لهذه الجوانب نتوقف عند اللغط المثار الآن بشأن القصص والحكايات المتداولة فى الفضاء الاعلامى عن عودة وزارة الداخلية لعهدها القديم فى التعامل الخشن غير الآدمى مع المتهمين، وتسجيل عدة وقائع تعذيب لمواطنين داخل أقسام الشرطة أفضت لوفاة بعضهم، وأن ذلك يشكل ردة بعد أن ظن الكثيرون أن الداخلية عدلت من نهجها غير القويم الذى كان سببا فى اشتعال فتيل ثورة 25 يناير، وأن صورتها تغيرت عقب موقفها الداعم للجماهير الثائرة فى الثلاثين من يونيو. وبما أننا نطمح لبناء دولة قوية فلا غضاضة من مناقشة القضية بابعادها دون خجل، من أجل الصالح العام، ولكن على قاعدة تحتكم للعقل والمنطق والاسس العلمية البحتة، بمنأى عن التأثر بالأصوات العالية التى اعتادت مهاجمة الداخلية بسبب سبب، وتبدو فى حالة عداء دائم مع جهاز الشرطة، وكذلك عن الذين احترفوا الدفاع عن الداخلية بدون تفكير بالحق والباطل، ولا يكفون عن تقديم التبرير تلو الآخر والتماس الاعذار لها . وأول خطوة فى هذا الاتجاه الاجابة عن التساؤل التالى: هل استفادت وزارة الداخلية من دروس وعبر 28 يناير، وادركت احتياجها الشديد للاصلاح وتغيير منهجها وعقيدتها، لازالة رواسب سنوات طويلة من عدم الثقة فيها وفى القائمين عليها؟ الظواهر تشير إلى أنها وضعت يدها على ما وقعت فيه من أخطاء جسيمة تسببت فى حدوث فجوة عميقة بينها وبين المواطن العادى الذى كان يخشى الاقتراب من قسم الشرطة، بناء عليه فإنها بدأت فى اتخاذ خطوات لتصحيح المسار، والتواصل مع الجمهور بفكر مغاير يعتمد على أن الكل تحت مظلة القانون، وأن الشرطى مهمته الاولى والأخيرة حماية أرواح الناس وممتلكاتهم، واشعاره بوجود أمن فى الشارع، ومقاومة الجريمة بمختلف اشكالها وصورها. يتصل بهذا تساؤل آخر حول ما إذا كانت حوادث التعذيب بافتراض صحتها تشكل اطارا للعاملين بهذا الجهاز الحيوى، بمعنى هل يتدرب ضابط الشرطة منذ نعومة اظافره على أن التعذيب هو الأداة الوحيدة لاستخلاص المعلومات وحل الغاز الجرائم الجنائية؟ بالتأكيد لا يوجد ما يعزز أنه النهج السائد على الاقل فى المرحلة الراهنة، غير أن الانصاف يقتضى منا الاعتراف بأن الداخلية تعانى مشكلة أن بعضا من عناصرها اعتادوا فيما مضى التصرف على أرضية أنه يحق لهم فعل ما يشاءون دون أن يقعوا تحت طائلة سيف القانون، وأن هذه الانماط لا تزال فى الخدمة، وتقاوم تغيير أساليبها العنيفة، ويوجد إلى جوارهم بعض ممن تعرضوا لاهانات عقب ثورة 25 يناير ويريدون استعادة مجدهم الغابر، عندما كان لا يجرؤ احد على مناطحتهم أو مجادلتهم. تصرفات هؤلاء تخصم من رصيد الثقة والمصداقية فى الشرطة الذى يجب أن يتضاعف، وبمناسبة حديث المصداقية لماذا تشكك قطاعات عديدة من المواطنين فيما يصدر عن الداخلية من روايات ومعلومات، خاصة فى القضايا المتصلة بالتعذيب؟ والمثال على ذلك قصة الشاب اسلام السيد سالم الذى تردد أنه مات جراء تعذيبه فى قسم شرطة الرمل بالاسكندرية، وتداولت المواقع الالكترونية الواقعة من زاوية عنف الشرطة وضرورة التحقيق في الموضوع، حدث ذلك على الرغم من أن المتحدث باسم الداخلية أعلن أن اسلام توفى حينما كان يحاول الهرب، وسقط من سطح القسم، وأن معاينة النيابة وتحقيقاتها فى وفاته أكدت ذلك. والملاحظ أن ضعف مصداقية الداخلية لدى جزء من الشارع يرجع فى جانب منه إلى ان بعض التيارات السياسية والدينية تستغل هذه الاحداث لتوجيه الطعنات للشرطة. إن وزارة الداخلية مؤسسة وطنية واجبنا السعى للحفاظ على تماسكها وقوتها، وأنه يلزمها وقت ليحدث فيها التغيير الذى ننشده، وأن نتوقف عن تكرار الاتهامات الموجهة إليها دون تمحيصها وتدقيقها. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي