إذا كانت غزة تتألم فى اليوم الواحد مائة مرة من ويلات ومآسى العدوان الإسرائيلى الوحشى الأخير على أهلها، ومن قبله حصارها وخنقها اقتصاديا ، فإنها تتوجع وتصرخ آلاف المرات من المتاجرين بها وبآلامها، وهم بكل أسف كثر، ولا يشغلهم سوى اظهار أنفسهم أمام الرأى العام كمدافعين مخلصين أوفياء عن المستضعفين والمنكوبين فى القطاع وتنهمر دموعهم على شاشات الفضائيات، بينما هم يتلذذون بمشاهد الدم والدمار ، ويتوقون للمزيد منها، كيف لا وهم يتعاطون معها كسلعة رائجة مربحة تدر عليهم نفحات وعطايا لا تعد ولا تحصى ممن يملكون بوصلة توجيههم، فهؤلاء فى الحقيقة يشكلون سببا مهما من أسباب الفشل المزمن فى العثور على حلول للأزمة الفلسطينية عموما ولمأساة غزة خاصة. والمزعج والمحزن فى هذه التجارة الحرام أنها تغلف وتطرح فى الأسواق بشعارات دينية، إمعانا فى التضليل وتزييف الوعي، ومن أجل حشد الانصار والتابعين، وسعيا لإضفاء مصداقية على مواقفهم. ويقود صفوف المتاجرين بغزة جماعة الإخوان والسائرون على دربهم، فتلك الجماعة لها تاريخ عريض فى هذا المضمار، منذ اندلاع الانتفاضات الفلسطينية فى ثمانينات القرن المنصرم، فكم من ملايين جمعت عبر لجان الاغاثة واستغلت كمصدر دعم وتمويل لأنشطتها وخططها فى التغلغل بمؤسسات الدولة لتقويضها من الداخل، وتشييد امبراطورية اقتصادية ومالية مترامية الأطراف، وكون قادتها بفضلها ثروات ضخمة . وهذا الاتهام ليس جزافيا بل توجد وقائع وقرائن محددة تناولها بالتفصيل الممل كثير من كوادر الإخوان، وقيادات النقابات المختلفة كالأطباء والصيادلة والمهندسين. التى كانت مملكة يتحكمون فى مفاتحها كيفما شاءوا. وإن تغاضينا عن قصة التبرعات ومصيرها، وكم منها ذهب فعليا للمحتاجين من الفلسطينيين، فإن الإخوان، ومعهم قطاع لا يستهان به من التيار الإسلامى على أرض الواقع، لا يقدمون ما يدل على صدقهم فيما يعلنونه من مواقف يخيل إليك عند مطالعتها وتأملها أن جحافلهم ستزحف فى الغد على القدس، لتحريرها من الاحتلال الإسرائيلى الجاثم فوق صدرها منذ عقود، فلو كانوا حقا صادقين ويبغون الخير لماذا يحرضون حماس والجهاد وغيرهما من الفصائل المسيطرة على غزة على رفض مبادرة التهدئة المصرية المقترحة. ليس هذا فحسب، بل إن الإخوان ونتيجة لموقفهم العدائى تجاه وطنهم بعد ثورة 30 يونيو يقاومون ويعرقلون بكل طاقتهم اضطلاع مصر بأى دور، لوقف اطلاق النار، وصون أرواح الفلسطينيين، فى حين يباركون ويرحبون بقيام قطر وتركيا وغيرهما من البلدان التى تتعاطف معهم وتؤيدهم سياسيا وماليا بدور الوسيط، ويلحون على حماس بالتجاوب فقط مع ما يصدر من الدوحة وأنقرة، مهما كان حجم الخسائر ، بذريعة أن الجانب المصرى لم يتشاور مع الحركة حول مضمون المبادرة، والإخوان وكعادتهم يقدمون مصلحتهم وحساباتهم وصفقاتهم على مصلحة سكان غزة المعذبين. وتضم قائمة المتاجرين بغزة وأوجاعها أيضا جوقة اعلامية لا تكترث إلا بإحداث صخب وضجيج غير مجد بقدر ما تستطيع، ويزيد عليه عدم مراعاة متطلبات واستحقاقات الأمن القومى المصري، إذ أن عناصرها لا يكفون عن محاولة الزج بالقوات المسلحة للدخول فى حرب مع إسرائيل استنادا لمزاعم ودعاوى واهية، وتظهر حقدهم وكراهيتهم لهذه المؤسسة الوطنية التى نجحت فى التماسك فى ظل ما تعرضت له المحروسة، عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير من فوضى وانفلات، ويسعون لهدمها لكى يصفو لهم الجو ويعيثوا فسادا وتخريبا. فهل فكروا فى أن ظروف مصر ووضعها الراهن لا يحتمل مثل هذه المغامرات والمهاترات الرخيصة، وأن تكلفة الحرب ستكون باهظة بكل المقاييس الآن ومستقبلا، وهل قدروا أن بلادهم تخوض معركة لا بديل فيها عن النصر على الإرهاب وأذرعه، ولم يكن الهجوم الإرهابى الغادر أمس الأول على موقع لقوات حرس الحدود فى الوادى الجديد سوى تأكيد جديد لصحة موقف القوات المسلحة بتجاهل مثل هذه الدعوات الخرقاء الضارة بمستقبل الوطن والأجيال القادمة، وبافتراض أن مصر استجابت وخاضت حربا ضد إسرائيل، فهل سيكون ذلك طوق النجاة الفعلى للقضية الفلسطينية؟ ثم الا يتذكرون أن بلادنا دفعت ثمنا غاليا لمشاركتها فى حرب اليمن، وأنها بحكم موقعها كقوة اقليمية عليها التريث فى خطواتها فى منطقة مليئة بالألغام والأشواك، وتتعرض لمؤامرات تستهدف تقسيم دولها وتحويلها لكواكب صغيرة تابعة لقوى دولية واقليمية، ومن ينفخون فى نار الحرب يتجاهلون أن معظم الفلسطينيين سواء فى غزة أو الضفة الغربية يتفقون على أن المسار السلمى هو الكفيل بتحقيق مطالبهم المشروعة، حتى مع تأكيدات قادة الحركة الذين يقيم غالبيتهم خارج الأراضى الفلسطينية فى استمساكها بخيار المقاومة، وأن حماس سبق لها توقيع اتفاق للهدنة مع الإسرائيليين، وأن عراب الاتفاق كان الرئيس السابق محمد مرسي، وأنها لا تكف، منذ نشوب الأزمة عن بيان رغبتها فى الالتزام ببنوده والتزاماته. ثالث المتاجرين بغزة ومحنتها القاسية الموجعة حفنة من الزعماء الذين اصابهم هوس الزعامة ويقلقهم استعادة مصر لدورها القيادي، مما يجعلهم طوال الوقت فى حالة من الفوران والتشوش، ولا يجدون ملاذا سوى المزايدة والصراخ وتوجيه سهامهم المسمومة فى اتجاه القاهرة، وأردوغان اسطنبول خير برهان، فهو يصف إسرائيل بالوحشية والهمجية صباحا، وفى المساء يوقع اتفاقيات ومعاهدات معها ويدرب الطيارين الإسرائيليين على المهام القتالية فى الأجواء التركية، وربما شارك الجزء الأكبر ممن يقصفون غزة حاليا فى هذه التدريبات بما يجعله بصورة غير مباشرة شريكا فى قتل الفلسطينيين . لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي