ما أن يحل علينا شهر رمضان، حتى يبدأ تكثيف إعلانات التبرع لصالح مرضى السرطان والكلى والكبد والقلب، فضلا عن الأيتام والفقراء، حتى أصبحت تلك الإعلانات ملازمة للشهر الكريم بشكل قد يراه البعض مبالغا فيه.. بالطبع لا أحد ينكر أهمية «التكافل» والتراحم بين فئات المجتمع، إلا أنه بمتابعة بعض ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعى تجاه تلك الجرعة «المكثفة»، وهذا «الإلحاح» الإعلانى، لاحظنا نوعا من الاستياء والنفور، وتركزت التعليقات فى محور رئيسى وهو أننا لسنا مسئولين عن ارتفاع نسبة الفقر بل هو نتيجة سياسات خاطئة، وإهمال الأقاليم ومحافظات الريف لعقود طويلة، ولاداعى لأن يشعرونا بالذنب لمجرد أننا ننام فى «فرشة نظيفة» أو نجد ماء فى «الصنبور»، أو لأننا لا نضطر للأكل من «صندوق القمامة»، ولسنا السبب فى إصابة هؤلاء المرضى بالسرطان، بل من أدخل الأسمدة المسرطنة وسمح برى المحاصيل بمياه الصرف.
تلك النغمة التى تتردد بقوة أثارت الخشية من ألا تأتى تلك الإعلانات بالغرض المرجو منها، ويجعلنا نتساءل: لماذا لا يتم بث تلك الإعلانات على مدار العام، بدلا من تكثيفها فى شهر واحد، وتكرارها بهذا المعدل المرتفع؟ اللواء ممدوح شعبان مدير عام جمعية الأورمان يبدأ حديثه بأن زيادة نسبة الإعلانات فى شهر رمضان «قصة» قديمة عمرها عشرون عاما، ويجيب عن السبب، وهو أن المصريين ببساطة يميلون إلى إخراج زكاة مالهم فى الشهر الكريم ويحرصون على الإكثار من الصدقات طمعا فى الثواب والأجر المضاعف، وكل ما تفعله تلك الإعلانات هى مساعدتهم فى كيفية توجيه تلك الأموال وإتاحة الفرص والسبل أمامهم، لكنه استدرك قائلا: نتمنى أن يتصدق المصريون طوال العام وتتوزع زكاة مالهم على شهور السنة ولا تقتصر على رمضان، لكنهم فى النهاية جبلوا على تلك العادة. التبرعات تزيد ويؤكد مدير الجمعية أن التبرعات تزيد بالفعل مع تكثيف الإعلانات بنسبة من 10 إلى 15% وتمثل تبرعات الأفراد 70% منها، والباقى يأتى من شركات وكيانات أخرى.ويرد مدير الجمعية على من يطالب بتوفير قيمة الإعلانات والاستفادة منها فى إعانة المحتاجين، فيقول بصراحة:» أولا هناك قاعدة معروفة وهى أنه اذا أنفقت جنيها فى إعلان فسيأتى لى بعشرة أو 12 جنيها، أى 12 ضعفا، فهل يكون احتفاظى بالجنيه الواحد حينها أفضل؟! ثانيا، ما يحدث فى دفع قيمة الإعلان هو الآتى: ثلث الإعلان يتبرع به أحد المتبرعين، أى أنه يتبرع خصيصا للإعلان، والثلث الثانى تتحمله القناة، بل قد يقدم بعض رؤساء القنوات عروضا خاصة، كأن تقدم إعلانات «مجانية» مقابل عدد معين من إعلانات مدفوعة الأجر، فمثلا مقابل 4 مرات من الإعلان المدفوع نحصل على 8 مرات مجانا، وهو ما يعد مؤشرا طيبا على ارتفاع نسبة الإحساس بالمسئولية الاجتماعية لدى رجال الأعمال وواجبهم تجاه مجتمعهم، أما الثلث المتبقى تتحمله الجمعية، ويكون مبلغا بسيطا، وفى النهاية سيجلب لنا على الأقل 10 أضعاف كما ذكرت مسبقا». فتش عن «الرعاة» من جانبه، يكشف لنا هشام عبد السلام مدير إدارة الإعلام والعلاقات العامة فى مستشفى سرطان الأطفال 57357 عن السر وراء زيادة تلك الإعلانات فى شهر رمضان، فيقول» ما يحدث أن الرعاة هم من يعرضون علينا تحمل نفقات الإعلان طوال شهر رمضان، فهل نرفض ونعتذر لهم؟! بالطبع ليس من المنطقى أن نفعل ذلك، وللأسف فهم لا يقومون بذلك إلا فى شهر رمضان، وفى النهاية كلانا مستفيد، وليس من مصلحتنا الرفض. تناقض د.سماح فرج مدرس بقسم الإذاعة والتليفزيون بإعلام القاهرة تفسر حالة الاستياء من كثافة تلك الإعلانات بأنه ربما لتركيزها على الاستمالات العاطفية بشكل مبالغ فيه، وهى أنواع، فإما أنها تخاطب وتستثير الجانب الدينى لدى الجمهور وتذكره بواجباته الدينية، أو انها تسعى لخلق حالة من التوحد مع مقدم الإعلان كى يتخيل المشاهد أنه مكانه ويتصور معاناته، أو إما أنها تستثير جانب المسئولية الاجتماعية فتذكر الفرد بمسئوليته تجاه هؤلاء المتضررين أيا كانوا، بعكس الاستمالات العقلية التى تركز على الأرقام والإحصاءات مثلا. وتلفت الدكتورة سماح إلى جوانب أخرى فتقول: «ربما فقد بعض تلك الإعلانات مصداقيته بعد أن اكتشف المشاهدون أن شخصية «عم محمد « الذى كان يعانى من السرطان ويطالب بالتبرع لعلاجه، يظهر هذا العام فى أحد المسلسلات فى أحد الأدوار الثانوية مما أثبت أن الشخصيات ليست واقعية وإنما مجرد ممثلين. الأمر الثانى هو أن المشاهد قد تصيبه حالة من الاستياء بعد مشاهدة الإعلانات التى تبث مشاهد الفقر والعوز والجوع، يليها مباشرة إعلانات الشاليهات والكومباوندز التى تقدر بملايين الجنيهات، ويشعر بتناقض رهيب، وسخط على الدولة وحكوماتها التى تسببت بسياساتها فى إحداث هذا التفاوت الرهيب بين طبقات شعبها، فى حين تشعره إعلانات الفقر بأنه يحصل على أكثر من اللازم رغم أنها حقوقه الطبيعية.