لم تكتف هذه الدراسة بتناول أوضاع اليهود فى مصر - سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا - فى الفترة ما بين (1922- 1956) وإنما سعت لكشف النشاط الصهيونى لليهود فى مصر فى الفترة نفسها ، مما يجعل فائدة قراءتها أضعافا مضاعفة . عبر تمهيد وثمانية فصول وخاتمة، حاول د. رشاد رمضان عبد السلام فى كتابه «يهود مصر 1922- 1956» الصادر أخيرا، والذى هو فى الأصل أطروحته للدكتوراه، الكشف عن أوضاع اليهود فى مصر، وطبيعة علاقتهم بالحكومة المصرية ،معرّجا على النشاط الصهيونى لليهود فى مصر فى الفصل الثانى، والذى يعدّ من أكثر أبواب الكتاب إثارة . فى الفصل الأول تناول المؤلف علاقة اليهود بالقصر الملكي، وذهب إلى أن التقارب المتبادل بين اليهود والقصر قد ازداد فى عهد السلطان ( الملك فيما بعد) أحمد فؤاد( 1917- 1936) وازدادت الثقة المتبادلة بين الحاكم واليهود فى مصر، وكان اليهود يحرصون على تهنئة الملك فؤاد فى مختلف المناسبات. برأى د. رشاد فقد نظر القائمون بالثورة إلى الطائفة الاسرائيلية على أنها طائفة مصرية ضمن النسيج الوطنى الواحد، وسار الرئيس عبد الناصر على نفس السياسة الودية تجاه اليهود المصريين، وذلك بزيارته للمعبد اليهودى بالقاهرة . فى الفصل الثانى الذى يعد أكثر فصول الدراسة إثارة - تناول المؤلف أطماع الصهيونية فى سيناء، مشيرا إلى أن أطماع الصهيونية فى شبه جزيرة سيناء ظهرت منذ عام 1903، حيث وضع «هرتزل» مشروعا لاستعمار العريش وشمال سيناء المصرية ، حتى يكونوا على مقربة من فلسطين (أرض المعاد)، وبذلك يسهل عليهم التسلل إليها شيئا فشيئا لإقامة الدولة اليهودية فى فلسطين . يرى المؤلف أن اليهود اتخذوا مصر ممرا لدخول الأراضى الفلسطينية، حيث زار « ويزمان « القاهرة فى عام 1934، وألقى خطابا فى قاعة (الجوت دى ليه) عن الأوضاع داخل فلسطين، وواجب يهود العالم تجاهها، وكانت الشخصيات اليهودية البارزة فى مصر تقوم بزيارة فلسطين للاطلاع على جهود الصهيونيين من أجل استعمار فلسطين. وبرأى د. رشاد ، فإن الرأى العام اليهودى فى مصر انقسم حول الصهيونية إلى فريقين : أحدهما مؤيد ، والآخر معارض، مشيرا إلى أن عددا كبيرا من اليهود فى مصر تحمس للصهيونية ومخططاتها فى إقامة الوطن القومى اليهودى، وأخذوا يقدمون جميع أشكال الدعم والمساندة لها عن طريق إنشاء الجمعيات الصهيونية، وإصدار الصحف للترويج للفكر الصهيونى والدفاع عنه، وإلقاء الخطب وجمع المال . ومن أبرز الشخصيات المصرية التى اعتنقت الفكر الصهيونى بحسب المؤلف - «البرت موصيري» الذى ولد فى أسرة يهودية ارستقراطية، وكان أول من لبى دعوة هرتزل إلى الصهيونية وتحقيق أهدافها . ومن أبرز قادة الصهيونية فى مصر حسبما جاء فى الدراسة «ليون كاسترو» الذى أصبح أول رئيس للمنظمة الصهيونية ابتداء من عام 1917، وكان أول أعماله تجميع الجمعيات الصهيونية المصرية وضمها إلى حظيرة فرع المنظمة، وأصبحت جمعية زئير زيون فى سنة 1918 فرعا للمنظمة الصهيونية العالمية فى الاسكندرية . وأقامت المنظمة فرعا لها بمدينة بور سعيد كان من أبرز أعضائه «إيزابى لورى» كما أنشأت فرعا آخر بمدينة المنصورة، وفى القاهرة اتخذت المنظمة مقرا لها بشارع أبو السباع رقم 17 (جواد حسنى الآن) . وأعلنت صراحة أن هدفها هو نشر الدعوة الصهيونية بين جماهير اليهود . وأشارت الدراسة إلى أن الصحافة الصهيونية وكتّابها فى مصر قاموا بدورهم فى خدمة الحركة الصهيونية، موضحة أن المؤيدين للصهيونية فى مصر حاولوا صرف أنظار الشعب المصرى عما يحدث لعرب فلسطين، وتحركوا من أجل دعم الصهيونية بجميع وسائل الدعم المادى والمعنوى والدعائى، واتهام كل معارض لهم بالتعصب والعنصرية والنازية والفاشية . على الجانب الآخر، أشارت الدراسة إلى أنه من الإنصاف تأكيد أن يهود مصر لم يتردد بعضهم فى شجب النشاطات الصهيونية العنصرية ، وتصدى عدد من شباب اليهود المثقفين الواعين لهذا النشاط الصهيوني، وكونوا فيما بينهم جماعة عرفت باسم (الحركة المضادة للصهيونية) وبذل هؤلاء الشبان جهودا واسعة ونشاطا دائبا من أجل ايقاف التسلل الصهيونى ، وكشف أهدافه، وتوعية الشبيبة اليهودية والنأى بها عن الوقوع فى شراك ومخالب الصهيونية . ومن أبرز من حمل لواء الكفاح ضد الصهيونية «هانز بن كسفلت» وهو ابن لطبيب أسنان يهودى نمساوى الأصل عاش فى مصر، حيث شنّ «هانز» منذ عام 1942 حربا ضارية ضد المعتقدات الصهيونية . وذهبت الدراسة إلى أن الحركة الصهيونية فى البلاد العربية أحدثت منذ الحرب العالمية الأولى هزة عنيفة فى الرأى العام ، وتبدت خطورة الحركة بشكل واضح بعد الحرب العالمية الثانية، وما أظهره الصهيونيون من نشاط ارهابى مسلح بغية تحقيق أهدافهم، لم يقتصر على فلسطين فقط بل تعداها إلى مصر وغيرها من دول العالم، كما هو ثابت من حادث مقتل اللورد «موين» . كل ذلك جعل جامعة الدول العربية تصدر قرارا يلزم البلاد العربية بإصدار تشريع لمكافحة هذه الحركة ، وتنفيذا لهذا القرار أصدرت الحكومة المصرية تشريعا حازما كان أول خطوة فى سبيل مكافحة الصهيونية، حيث أقر مجلس الشيوخ ومجلس النواب قانون مكافحة الصهيوينة ، وصدّق عليه الملك فاروق. فى الفصل الخامس ذهب المؤلف إلى أن الرأسماليين اليهود فى مصر شكّلوا شبكة للرأسمالية العقارية كانت تسيطر على أجهزة التمويل المصرفى العاملة فى النشاط العقاري، مشيرا إلى أن بعض المرابين اليهود استطاعوا الاستحواذ على أراض زراعية فى ضواحى عديدة من مدن مصرية كالاسكندريةوالقاهرة وحلوان. وتناول الفصل السادس بعض الشئون الاجتماعية كزواج يهوديات بمسلمين. فى الفصل السابع عرض المؤلف لنشاط اليهود الثقافى والتعليمى والرياضى فى مصر، حيث عملت الطائفة الاسرائيلية على انشاء مدارس خاصة بها، تتبع الطائفة فى الادارة والإشراف ، وتعمل على جذب أبناء الطائفة إليها ، مشيرا إلى أن المدارس اليهودية لم تهتم بتعليم اللغة العربية كما ينبغي، ولم يكن الشباب اليهودى يقرأها إلا مصادفة ، وكانت المحادثات بين العائلات اليهودية بغير العربية . ذهب المؤلف إلى أن عددا من الفنانين اليهود قد نبغوا فى مجالات فنية مختلفة خلال القرن العشرين. ومن أشهر المصورين الفنان عدس . وفى عالم الموسيقى أنجب اليهود المصريون علما من أعلام التلحين ورائدا من رواد النغم هو الموسيقار «داود حسني» واسمه الحقيقى «دافيد حايم ليفي» الذى ولد فى القاهرة .وهناك أيضا من نجمات الشاشة راقية ابراهيم، واسمها الحقيقى راشيل ابراهام ليفي, والفنانة ليلى مراد. وخلص المؤلف إلى أن اليهود فى مصر تمتعوا بالأمن والأمان والحرية فى ممارسة جميع أنشطتهم، وحظوا بتكريم وتقريب حكام مصر لهم ، فضلا عن رعاية سلطات الاحتلال البريطانى فى مصر . واستخلص د. رشاد عددا من النتائج المهمة: منها أن الطائفة اليهودية فى مصر شهدت نموا عدديا عن طريق الانجاب والهجرة اليها، نافيا أن تكون حارة اليهود الموجودة فى مصر دليلا أن اليهود عاشوا فى معزل أو (جيتو) كما عاشوا فى أوروبا من قبل ، مشيرا أن نشأة الحارة كانت عفوية ومن نصيب الفقراء، أما أغنياء اليهود فقد عاشوا فى أرقى أحياء القاهرة والإسكندرية بغير تمييز أو حدود.
الكتاب: يهود مصر 1922- 1956 المؤلّف: د. رشاد رمضان عبد السلام الناشر : دار الكتب والوثائق المصرية - سلسلة مصر النهضة الصفحات: 416