مجددا تؤكد خبرة العالم من حولنا حقيقة أنه لا فرص عمل ولا تنمية اقتصادية بغير تصنيع؛ رغم ثورة المعرفة وتحدى العولمة، كما يبين تقرير منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) عن التنمية الصناعية فى العالم 2013، استنادا الى دراسات مُعتَبَرة ومؤشرات مقارنة. وأبدأ بايجاز ما تضمنه التقرير بشأن التصنيع والتشغيل. وأسجل من التقرير أولا، أن الصناعة التحويلية سبيل مواجهة مشكلات البطالة والفقر. فقد بلغ الاستيعاب المباشر للعمال فى الصناعة التحويلية 388 مليون فرصة عمل فى جميع أنحاء العالم فى عام 2009، مقارنة بنحو 211 مليون مشتغل فقط فى عام 1970. وترتفع أعداد العمالة فى الصناعة التحويلية- بتعريفها الواسع الشامل للخدمات المرتبطة بالتصنيع- الى حوالى 470 مليونا، أو حوالى 16 فى المائة من القوى العاملة فى العالم، أى واحدة من بين كل ست فرص عمل على الصعيد العالمى فى عام 2009، وتقدر بأكثر من نصف مليار فرصة عمل فى عام 2013، وهى أرقام أعلى بكثير مما كان يتوقعه الكثيرون. وفوق هذا، تشير الأدلة إلى أن كل فرصة عمل يتم إيجادها فى الصناعة التحويلية يتم إيجاد فرصتين عمل أو ثلاث فرص عمل خارجها، وهو ما يزيد كثيرا عن تقديرات فرص العمل فى الخدمات المرتبطة بالتصنيع. ولا يقتصر التصنيع على تعزيز أعداد العمالة وإنما أيضا يعزز نوعيتها وانتاجيتها ودخلها فى كل البلدان النامية والمتقدمة. ويعلن التقرير باستقامة أن فرص العمل لا تتساقط من السماء؛ وإنما تنشأ عن التنمية الاقتصادية، وأن خلق فرص عمل متزايدة ومستدامة يتطلب تغيير هيكل الاقتصاد؛ أى تعزيز قدرته على أن يولد وبشكل متواصل أنشطة جديدة سريعة النمو؛ تتميز بارتفاع القيمة المضافة والإنتاجية. وبفضل التصنيع، أى تنمية وتعميق وتحديث الصناعة التحويلية، أصبحت الأخيرة ركيزة وجوهر التحول الهيكلى والنمو الاقتصادي، وقدمت فرصا أوسع لتحقيق تراكم رأس المال والاستفادة من وفورات الحجم وإدخال التكنولوجيات الجديدة؛ مقارنة بغيرها من القطاعات الاقتصادية. ومنذ الثورة الصناعية، صارت الصناعة التحويلية رافعة تضاعف القدرات الإنتاجية والعمالة عالية الإنتاجية والدخل، ووفرت فرصا لتغيير هيكل الاقتصاد لصالح القطاعات ذات القيمة المضافة الأعلى والمحتوى المعرفى الأرقي. ومازالت الصناعة التحويلية محركاً للنمو باعتبارها مصدرا رئيسيا للموارد المالية والمعرفية اللازمة لاستدامة النمو. ومع خلق فرص العمل الجديدة ووفر ارتقاء التصنيع فرصا أوسع للعمالة من النساء وتحسين أجور العمالة فى الخدمات اللازمة للصناعة التحويلية. وأسجل من التقرير ثانيا، أن مفهوم التنمية الاقتصادية يرتبط ارتباطاً وثيقا بتغيير هيكل الاقتصاد، أى التكوين القطاعى للناتج المحلى الإجمالي، المترتب على التحول من الأنشطة منخفضة الإنتاجية، ذات الفرص المحدودة لتسريع التغير التكنولوجى وتعظيم القيمة المضافة، نحو الأنشطة المرتفعة الإنتاجية ذات الفرص الأكبر للابتكار وزيادة القيمة المضافة، والتى تصبح أساس التغيير الهيكلى والتنمية الاقتصادية. ويرصد التقرير التغير فى أوزان مساهمة قطاعات الاقتصاد فى الناتج المحلى الإجمالي، فى نقاط زمنية مختلفة لبلدان مختلفة. ويخلص التقرير الى أن التنمية الاقتصادية تقترن ببلوغ حصة الصناعة التحويلية نحو ثلاثة أمثالها تقريبا، ثم تبدأ فى الانخفاض، بينما تستمر حصة الزراعة فى الانخفاض وتتجه حصة الخدمات المتصلة بالتصنيع الى الارتفاع. والتصنيع، أى تنمية وتعميق وتحديث الصناعة التحويلية، هو المحرك الرئيسى للنمو الاقتصادي، حيث ينطوى على تحويل للموارد من الأنشطة منخفضة الإنتاجية الى الصناعة التحويلية، وهو ما يوصف بأنه «تغيير هيكلى معزز للنمو». وما يميز الصناعة التحويلية عن القطاعات الأخرى هو قدرتها على توليد عائدات متزايدة وإنتاجية أعلي؛ نتيجة للتحسينات فى تقسيم العمل والتغير التكنولوجى ووفورات الحجم. وللتصنيع آثار رئيسية على باقى الاقتصاد؛ حيث يحفز زيادة الطلب على السلع الأولية وعلى زيادة جودتها فى الزراعة والتعدين والأعمال المصرفية والتأمين والاتصالات والتجارة والنقل وغيرها من قطاعات الاقتصاد. وتولد الصناعة التحويلية مكاسب حاسمة للقدرة التنافسية تنتشر الى غيرها من القطاعات؛ عبر دور التصنيع فى تطوير التكنولوجيا وخلق المهارات والتعلم. وقد أثبتت مجموعة كبيرة من الدراسات التجريبية الارتباط الإيجابى الوثيق بين النمو الاقتصادى والتغيير الهيكلى فى الصناعة التحويلية، حيث كانت مجموعات البلدان التى حققت أسرع نمو خلال الفترة 1970- 2007 هى تلك التى تحولت نحو التصنيع، بما فى ذلك أول الاقتصادات الآسيوية حديثة التصنيع فى جنوب شرق آسيا والصين. وعلى النقيض فان البلدان، التى تراجع فيها التصنيع، فى ذات الفترة، حققت نموا متواضعا جدا لنصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي، وهو ما أكدته دراسة استقصائية اقتصادية واجتماعية عالمية للأمم المتحدة، صدرت عام 2006. وبين 13 اقتصادا واصلت النمو السريع جداً بمعدل 7 فى المائة على الأقل لمدة 25 سنة بعد الحرب العالمية الثانية، شملت اقتصادات تفاوتت وبشدة من حيث مواردها الطبيعية وكثافتها السكانية، أظهرت الصناعة التحويلية النمو الأسرع فى 8 اقتصادات، بزيادة حصتها من الناتج المحلى الإجمالى وشهدت تغييرا هيكليا نحو التصنيع، كما بين تقرير للبنك الدولي. وتجدر الإشارة الى أن العمال فى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، والعاملين لحسابهم الخاص، والمشتغلين فى القطاع غير الرسمي، يمثلون ما يقرب من نصف العمالة فى الصناعة التحويلية، وهو نصيب يتزايد، ويعكس تسارع التصنيع فى الاقتصادات الناشئة. ومع وعد بتناول لاحق، إن شاء الله، لبقية محتويات التقرير، ولأسباب وأبعاد ومخاطر تراجع تصنيع مصر، أعلن مجددا وباستقامة: أن المصريين لن يتمتعوا بأمنهم الإنساني, إلا بفضل ما يتيحه التصنيع من وظائف غير محدودة ومرتفعة الإنتاجية والدخل، ولن تعزز مصر أمنها القومى وتتحرر من التخلف والتبعية والانكشاف والعوز بغير التصنيع. ووأكرر أنه على الرئيس السيسى أن يثق فى أن قدرات مصر تؤهلها- دون ريب- لأن تكون دولة صناعية متقدمة وغنية! وأن توسع عمران مصر لا غنى عنه، ولكن بالاستثمار فى التصنيع. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم