«الانفرادية» و«الآنية » ظاهرتان تميزت بهما الحكومات المصرية فى الحقبة الأخيرة، هكذا يرى الدكتور أبوزيد راجح الرئيس السابق للمركز القومى لبحوث الإسكان والبناء وعضو المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية. فالانفرادية -من وجهة نظره -أدت إلى غياب التعاون والتنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة وبالتحديد فى المشاريع التى تتطلب مشاركة أكثر من جهة، فكل وزارة تعمل من خلال التخطيط القطاعي، وتنفذ مشروعاتها دون تنسيق أو تعاون فيما بينهما لتحقيق تنمية شاملة، أما الآنية فتعنى الاهتمام بأزمات الوقت الحالى فقط، دون تخطيط على المدى الطويل الذى يحدد مسار التنمية فى مصر ولهذا فان الوزارات فى مصر لا ترى إلا "تحت قدميها". وفى السنوات الأخيرة وبعد أن دفعت مصر تكلفة غالية لعدم التعاون والتنسيق بين الوزارات المختلفة، بدأ التفكير جدياً فيما يسمى "بالتخطيط القومى الاستراتيجي" والتفكير فى التنمية القومية الشاملة تضم التنمية الاقتصادية و الصناعة، والزراعة، والسياحة، ثم المجموعة الثانية وهي"التنمية الاجتماعية"، وتشمل الخدمات والتنمية البشرية والصحة، والتعليم، والثقافة، والشباب، ثم المجموعة الثالثة وهي"التنمية المكانية" وتشمل الأرض بما فيها من ثروات ومياه وطاقة ونقل وطرق. هذه المجموعات الثلاث للتنمية فى تكاملها تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بين شرائح المجتمع المختلفة، وتحقيق العدالة المكانية، أى تنمية أقاليم مصر كلها بصور متوازنة و متوازية فلا يتم الانحياز لشريحة سكانية بعينها أو لإقليم مكانى دون باقى الأقاليم، ويرى أبو زيد أن الدولة اتخذت بالفعل خطوات فى هذا الاتجاه حيث تٌعد وزارة التخطيط "قانون التخطيط الموحد" الذى يجمع التخطيطات القطاعية فى مخطط قومى شامل، يٌحدد من خلاله المؤسسات التى تقوم بالتنفيذ، بالإضافة إلى وجود اتجاه داخل الحكومة لتحويل المجلس الاعلى للتخطيط والتنمية العمرانية الحالى إلى المجلس الاعلى للتخطيط والتنمية لكى يكون المظلة التى تعمل تحتها كافة الوزارات بتخطيط كامل وتنسيق وتعاون. «الولاية» على الأراضى .. باب واسع للخلافات سألنا الدكتور أحمد درويش وزير التنمية الإدارية الأسبق عن سبب التداخل، وقلنا .. كيف يتم فض الاشتباك الحكومي-الحكومى ؟ أجابنا موضحاً أن مجلس الوزراء هو الجهة المسئولة عن التنسيق بين الوزارات إما من خلال المجلس نفسه أو بعض لجانه، لكن فى بعض المشروعات المشتركة يحدد رئيس مجلس الوزراء الوزارة التى تقود مشروعا ما أو التى تتولى تذليل العقبات الإدارية أمامه. والتداخل لا يقتصر على وزارتين مثلا، وإنما قد يمتد إلى الهيئات والجهات التابعة لنفس الوزارة. ويضيف درويش قائلا إن بعض القرارات والقوانين التى تنظم العمل فى المشروعات تستخدم كلمات مثل "بالتعاون مع" أو "بالتنسيق مع" فتطرح تساؤلات مثل: هل تكتفى الجهة صاحبة المشروع بإبلاغ الوزارة المذكورة أم أن عليها إشراكها فى المشروع؟ وكيف يتم ذلك ؟ ويظهر عدم التنسيق بوضوح فى حالات الولاية على الأراضى والتى تفتح الكثير من أبواب الخلاف والتصارع بين الوزارات والهيئات الحكومية، فعلى سبيل المثال إذا وجدت قطعة ارض بالقرب من بحيرة يمكن أن تكون الولاية لهيئة الثروة السمكية لان الأرض من حرم البحيرة ،بينما قد تقول المحافظة انها اراض تابعة لها وربما تتدخل وزارة الزراعة اذا كانت الارض مزروعة ،بينما يمكن لوزارة الآثار أن تزعم بأثرية المكان! هذا التداخل يعطل الاستثمارات-ولايزال الكلام لوزير التنمية الإدارية السابق- فقد قابلنا مستثمرين يشترون اراضى من الحكومة ممثلة فى احدى الوزارات ثم يفاجأ عند بدء مشروعه بأن الأرض ملك لوزارة أخري، أو تدخل فى الولاية جهة ثالثة فيتوقف المشروع وتبدأ القضايا و يأتى المستثمر إلى مجلس الوزراء ويشكو لأنه من المفترض انه قام بالشراء من الحكومة! ويضيف :"النماذج كثيرة ولابد من فض هذا التداخل " أما السبب الحقيقى لهذا الاشتباك كما يرى درويش، فهو كون مصر دولة تقوم على النظام المؤسسي، الذى كما يتمتع بمزايا ، يملك عيوبا، فالجانب الايجابى منه يكمن فى عدم انفراد جهة واحدة بالقرار وبالتالى يكون مدروسا من أكثر من جانب ، أما وجهه السلبى فيكمن فى إساءة استخدام دولة المؤسسات لحقها فتكون فى هذه الحالة معرقلة للاستثمار والحل ان تكون كل مؤسسة فى الدولة ذات كفاءة عالية ، وتكون حدود الولاية بينها واضحة. دمج شكلى لاشك أن الحكومات المتتالية ترى بوضوح هذا الاشتباك ولذلك لجأ بعض رؤساء الوزارات إلى الدمج بين وزارتين أو أكثر، لكن وزير التنمية الإدارية الأسبق، أكد أن ما يحدث بالفعل فى 90٪ من هذه الحالات هو إعطاء وزير واحد حقيبتين وزاريتين ولكنه لا يعنى أى تطوير حقيقى على مستوى التنظيم الإدارى لهذه الوزارات ولا يحقق الغرض الحقيقى من الدمج وهو تخفيض النفقات ورفع الكفاءة وزيادة الإنتاج . الحل كما يطرحه درويش يتمثل فى إنشاء "مصفوفة الاختصاصات" التى تعنى ببساطة وضع مجموعة جداول بسيطة يدرج فيها الاختصاصات المختلفة فى الدولة ثم الجهات الحكومية المنوط بها تنفيذ هذه الاختصاصات وعند إدراج البيانات سوف يتضح لنا مناطق التشابك الحقيقى وتكرار المهام بين الجهات المختلفة وعندها يمكن فض الاشتباك من خلال معرفة الجهة الأصيلة فى الاختصاص و الجهة الاستشارية والجهات التى تم تغيير نشاطها. ومن الضرورى عند تنفيذ هذه المصفوفة اتخاذ الإجراءات التشريعية والتنظيمية التى تتيح فض الاشتباكات فالغرض من هذا الرصد ليس سلب الصلاحيات ولكن العمل وتيسير المصالح، لكن بعض الجهات تتعنت لأنها ترى انها الأقدر أو لديها كفاءات اعلى من باقى الجهات. أما الحل الثانى فهو ضرورة دراسة الأثر التشريعى لكل القوانين التى تصدر فهناك تضارب اشد فى الاختصاصات الوزارية و الحكومية يظهر فى التشريعات التى لا يراعى عند وضعها القوانين السابقة أو حتى التأثير المالى و الاجتماعى والاقتصادى لتنفيذها. ويوضح وزير التنمية الإدارية الأسبق قائلا:"من ضمن الإجراءات العالمية التى ظهرت فى الفترة الماضية ما عرف "بالمقصلة التشريعية" حيث اكتشفت فى بعض الدول أن التشابكات عنيفة جدا بين التشريعات التى تحكم عمل الجهات المختلفة فبدأت فى إعداد تشريعات جديدة وشكلت لجان استماع لتتناقش مع الجهات التى تطالب بالإبقاء على قانون خاص بها فإذا أجادت الجهة الدفاع عن القانون، وأبرزت أهميته، يتم الإبقاء عليه، وهناك تجربة ناجحة لهذا النموذج فى مصلحة الجمارك تم تطبيقها بالفعل". «مشاجرات» حكومية! د. أية ماهر- أستاذ الإدارة والموارد البشرية بالجامعة الألمانية- تشخص الخلل قائلة:" عندما أراد وزير التنمية الإدارية الأسبق د.أحمد درويش إعادة هيكلة النظام الإدارى للدولة وتقييم أداء العاملين به، اعترض الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة، لأنه رأى أن هذا من صميم عمله، وعندما نرغب فى الحصول على إحصاءات وبيانات رقمية نجد تضاربا وتباينا واضحا بين إحصاءات مركز دعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء وبين الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، ولا نعلم فى النهاية من المسئول عن تقديم الأرقام والبيانات الأدق، والكل يدعى انه صاحب الأرقام الأدق، وعندما نسأل عن الجهة المسئولة عن الإعلان عن فرص العمل المتوفرة، نجد أكثر من وزارة كالقوى العاملة والشباب والاستثمار، وفى النهاية كل وزارة منها تعمل فى جزيرة منفصلة. لدينا أيضا نحو 27 جهازا رقابيا، ومع ذلك فنصيب مصر من الفساد فى تزايد، وتضع خبيرة الإدارة يدها على مكمن الخلل فتقول: للأسف فان كثيرا من الأجهزة الحكومية تم إنشاؤها لأهداف سياسية، فيقال انه فى عهد الوزير فلان أو رئيس الوزراء الفلانى تم إنشاء أو تأسيس جهاز أو مجلس أو هيئة، فالإدارة العامة فى مصر مسيسة منذ عهد عبد الناصر حتى مبارك. الأمر الثانى الذى قد يبدو ايجابيا هو محاولة إيجاد وظائف جديدة لكنها فى الحقيقة تخلق نوعا من البطالة المقنعة، لأنه لا يوجد دور حقيقى تقوم به تلك الأجهزة، وقد يكون سبب إنشائها محاباة بعض الأشخاص من خلال منحهم بعض المناصب العليا فى إدارة تلك الكيانات الجديدة، ليكون لدينا فى النهاية استنزاف حقيقى لموارد الدولة دون عائد، وتضخم هائل فى الجهاز الإدارى للدولة ليضم الآن 8 ملايين موظف بمن فيهم المؤقتون، فى حين انه يحتاج ربع هذا العدد فقط. الحل من وجهة نظر الدكتورة آية يتلخص فى إعادة هيكلة أجهزة الدولة "وغربلتها" لنعرف ما الذى تحتاجه الدولة فعلا وما الذى يمكن الاستغناء عنه، لكن قبل أن يتم ذلك لابد أولا من حصر اعداد القوى العاملة فى تلك الأجهزة التى سيتم إلغاؤها، لإعادة توظيفها واستغلالها فى مشروعات جديدة كبرى ، تستوعب أعدادا ضخمة من الموارد البشرية، وتضيف: اقترحت سابقا ،و كما هو معمول به فى دول العالم المتقدمة، تأسيس هيئة قومية للموارد البشرية، تكون مهمتها إدارة هذا العنصر المهم فى أى عملية تنموية، بحيث يكون لديها كل البيانات الخاصة بالموارد البشرية المتاحة فى مصر وإمكانياتها وتوزيعها وتخصصاتها ، وما ينقصها ، وهو دور لا تقوم به أى جهة فى الدولة الآن سواء كانت وزارة القوى العاملة أو جهاز التنظيم والإدارة.