«1» دخلت « ماريّا « متوترة,طلبت من خبيرةالتجميل إضافة بعض الامتلاءإلى وجهها. نظرت الخبيرة قليلاً لوجه «ماريّا «المتورم ثم قالت بهدوء : عزيزتي ...ينبغي علينا التوقف أحيانا عن محاولة تجميل أنفسنا كي لانزداد بشاعة. نهضت «ماريّا « , مشت بجسدها الواثق نحو خبيرة التجميل ,مسّت ذقنها مجبرة إياها على النظر في عينيها ,قائلة ببطء : عيناك متقدتان ...على جبينك خط غائر تركه رجل يمعن في الغياب ... أنت امرأة وحيدة, ورأي امرأة وحيدة في الجمال لايعوّل عليه . «2» كانت «ماريّا» في السادسةعشرة حين زارته في المكتبة للمرة الأولى .قرأت له القصيدة بعينين نصف مغمضتين وبكل روحها ,كانت مستغرقة تماما وكان يبدو مستمتعا . عند البيت السابع والعشرين دخلت زوجته فجأة ,استفاق هو هاتفا : ماريّا جاءت لتريني صور خطوبتها – مشدداعلى كلمة « خطوبتها « –وتأخذ رأيي في قصيدتها الأولى . نظرت ماريا إلى السيدة بدهشة ممتزجة بالاستنكار « كنت أظنك مثقفة وغير محدودة التفكير هكذا !» , بينما نظرات السيدة للقصيدة في يد ماريا ترد : « نعم ...هكذا يبدأ الأمر.» مع ظهور « ماريا « بدأت زوجته تفتعل الأسباب لزيارة المكتبة فجأة . مرّة لإعادة ترتيب أحد الرفوف ومرّة لمراجعة دفاترالتوزيع . تدخل وبصحبتهاعدد لانهائي من الانتقادات : هذا الكتاب لايصح أن يوضع هكذا ..هذه اللوحة مكانها هنا أفضل ..كيف تجرؤعلى توزيع هذا الهراء! في بداية تلك الزيارات المفاجئة , وحده كان يصاب بالارتباك ...لكن لم تمرفترة طويلة حتى أصبحت « ماريا « شريكة له .. تنظرلها زوجته نظرات قاسية .. تحاول مطاردة آثارها التي تتركها في كل ركن ..لكن يظل شيئا ما معلقا بين الرفوف ... «إذا بدأتِ في رؤية البنات صغيرات , أدركي انك كبرتِ ..واحذري ! «هكذا كانت أمها تقول. «3» نظرت خبيرة التجميل بتمعن في المرآة , باحثة عن هذا الخط الذي أشارت له «ماريا» . أخذت تجرب تعبيرات مختلفة حتى رأته بوضوح , أشاحت بوجهها ..معه كنت أكثر وحدة ..أشتعل فيطفئني بروده , يشتعل فأرد له الثلج ثلجين ..هكذا ظللنا نتبادل البرد حتى تجمدنا. كلما ازدادت مهارتها كخبيرة تجميل أصبحت لاترى في الوجوه غير العيوب . حين أخبرت صديقتها أنها بدأت في إجراءات الطلاق ,هزت الصديقة رأسها بحزن قائلة : حرام ...تطلّقيه يزعل ...صاحبي عليه نظرت إليها كأنها لاتفهم ما تقول, فأضافت : واحد بس مش حرام ...أنا ما قلت صاحبي كل يوم واحد ! لكن تطلّقيه ...يزعل ...حرام. دخلت المجال بالصدفة , حين تركت لها عمتها مركز التجميل الذي كان مشروع عمرها. حين دخلت المركز لأول مرة داهمتها رائحة العطورالمختلطة. تجولت بين الألوان الرقيقة للجدران والإضاءة الساحرة الموزّعة بمهارة .. كانت النساء من مختلف الأعمار جالسات في أرجاء المكان ..في حالات مختلفة من العناية بالشعر والبشرة والجسد ..لكن في حالة واحدة مشتركة من الارتياح والثرثرة المرحة ..بدا لها أن هناك شيئا فاتناً في عالم الأنوثة لم تختبره من قبل ..كانت دائما ما ترى هوس النساء بالجمال نوعا من الهوس الجنسي ..أو وهم الانتصار في معارك ورطهنّ فيها رجل ما ..لكن هناك اكتشفت نوعاً آخرمن النساء ..يسندهنّ الجمال من ضعف الروح ووجعها ..يتلمسن طريقهن للثقة وحب الحياة والبدء من جديد. كانت تنظر لإحداهن باستخفاف وهي تفكر : وهل إذا أزلت هذه البقعة الداكنة على عنقك ستغدو حياتك أفضل! الآن ترى أن إزالة بعض البقع تجعل الحياة فعلا أفضل. «4» زوجته قالت له : يكفي هذا . تستطيع أن تأخذ المكتبة , وتترك البيت والتزاماته الخانقة والأولاد ومصاريف الدراسة وكل هذا الذي يصيبك بالضجر . لاتلتفت وراءك , ونحن كذلك . «ماريا » كانت دائما تقول له : أنا لك ..خذني متى شئت ..فقط لاتتركني وحيدة في هذا العالم . هكذا كان البابان مفتوحين أمامه , لكنه الشاعر والمبدع والمجنون والمختلف والذي يعشق دوما الأبواب المغلقة التي تستفز قدرته على التحدي والاجتياز وتمنحه نشوة انتصارما ولوكان مؤقتاً . « ماريا « دخلت حياته في الوقت المناسب تماما , بجسدها الصغيرالغض وعينيها الحالمتين اللتين تقولان له إن الزمن يستطيع أن يرجع للخلف وأن الجنون والإبداع جناحان لايحدهما زمن ولاحدود .. وأنه سوف يرشف من صباها وتتشرب هي بخبرته ..كان يحب عينيها , تحديدا نظراتها ,تلك التي تراه عظيماً وتقرأ كل ما كتب كأروع ما خطت البشرية منذ عرفت التدوين . لكن أي ثمن باهظ ينبغي عليه أن يدفع الآن؟ هكذا أغلق البابين ..قبّل رأس زوجته وقال إنها رفيقة العمر وتحبه وسوف تنسى ..وقبّل يد « ماريا « وقال إنها صغيرة وسوف يأتي شاب يحبها وتحبه وسوف تنسى ..هكذا كل شيء سيكون على ما يرام. ..تركهاعذراء , تماما كأي عاشق جنتلمان وشاعرأيضا ,بعد أن قرأ على جسدها الصغير كل قصائده .. « مشدداعلى « الترابط الأسري « طلب منها أن تبدأ حياتها الحقيقية مع شاب جميل وغض مثلها ...تتزوج وتنجب بنات كثيرات يشبهنها . تركته « ماريا « لكنها لم تتزوج أبداً , ولم تشعرأنها بحاجة لبنات صغيرات يشبهنها. «5» تركها الشاعر ..واستنفدت كل مالديها من دموع وأغاني الهجروالولع .. فكرت في قتله وقتل زوجته وقتل نفسها كما تقرأ في الروايات ثم استغنت عن ذلك كله بتعلم الرقص . أحبت الرقص وأتقنته .. وكان كل شخص مر في حياتها بعد ذلك مصنفاً خلف رقصة ما ...فهذه رقّاصة موالد ..وهذا راقص باليه ..وهؤلاء يعلّقون الجماجم حول أعناقهم كالقبائل البدائية يرقصون طويلاً قبل الانقضاض . استغرقت «ماريا» سنتين لتتخلص من آثارصدمتها ..نفس المدة التي قضتها في سعادة مع حبّها الأول والوحيد ..وكأنها دفعت أمام كل يوم من السعادة يوماً من الفقد والألم . دخلت « ماريا « عامها العشرين وقد أوفت نصيبها من الألم , وانمحى الشاعر تماما من ذاكرتها , وإن ظلت ممتنة لتجربتهاالمبكرة التي تعلمت منها كيف تكون الحياة خارج الكتب . تعلمت أنه ليس مهما ما تكتب ولكن المهم الطريقة التي ستقول له بها والنظرات التي ستنظربها وهي تقول ..أجادت فنون الرقص ..الرقص بالكلمات ..بالصوت وبالنظرات ..وبالجسد طبعا .. ممتنة جدا لكل ال « كبار « الذين وفرواعليها خطوات كثيرة في طريقها .. « الكبار « الذين يقولون مالايستطيعون , ويفعلون مالايجرؤون على قوله .. ممتنة كذلك لكل هؤلاء الصغارالذين تألقت بصحبتهم وبما يكتبون فيها من شعروأغنيات ..ممتنة لكل شيء ..عدا شئ واحد تطارده ويطاردها .وتبذل كل ما في وسعها لتنتصرعليه .. الزمن! ظلت متابعة جيدة لكل مستجدات عالم التجميل وزبونة دائمة في أشهرمراكزه ..كل ما يهدد جمالها لاينبغي التعامل معه بأي قدرمن التسامح ..لابد أن يستمرالرقص ..فالكل يرقص ..يتراقص ..يتبادل الأماكن والكلمات .. ينتهزالفرصة ليحتل مركزالمسرح ولايبالي بمن يعرقل في طريقه ..حتى الأرض ترقص ...تدورحول نفسها وترقص ...وفي أثناء رقصتها تسرق من العمرالكثير. «6» إذا لم تستطع أن تغفر , فلامعنى أن تحيا بشوكة في قلبك . اختفت « ماريا» من حياة زوجها ..لكن الهزيمة لم تختفِ . هزيمة رجل يعلم أمام نفسه أنه يتغنى بما لايستطيع فعله حقاً , وهزيمة امرأة ظلت طوال حياتها تعتقد انها امرأة فاتنة وسعيدة في زواجها . كانت هناك « ماريات « أخريات يظهرن بين حين وآخر ..لاتراهن في المكتبة ولكن تلمح آثارهن بين الرفوف . «ماريا « لم ترالشاعر بعدها سوى مرة واحدة في افتتاح معرض لأحد أصدقائها التشكيليين. كان هو وسط شلة من أصدقائه القدامى..تلاقت نظراتهما لكنه لم يجرؤعلى التقدم لتحيتها.. بادرت هي بأن هزت رأسها بفتور متعجبة من أن يكون هذا هو الشخص الذي أحبته..كيف وأين تختفي المشاعر ! كيف تتبخربحلوها ومرّها ..وكيف يظن البعض انه يستطيع استعباد من يحب إلى الأبد دون تقديم أي تنازلات . لم تشعر « ماريا « لا بالفرح ولابالأسى ..فقط صارطعم المشروب في يدها لاذعا وصارت الحلوى بلامذاق . خرجت وقد تذكرت موعدها في مركزالتجميل . «7» زوجته قالت : يكفي هذا ..هذه المر ة كانت مصممة ..منذ أن ورثت مركزالتجميل استغرقت في العمل بكل طاقتها .. استقل الأولاد بحياتهم وباتت ترى أنها كذلك تستطيع بدء حياة جديدة .. بدأت اجراءات الطلاق ..قالت صديقتها : تطلقيه ..يزعل ..حرام ..صاحبي عليه ! كيف لايخجل هذاالعالم من كونه مزدوجاً إلى هذاالحد ! حين دخلت «ماريّا» للمركزعرفتهاعلى الفور ..كان جسدها أكثر امتلاء وجمالا ,ورغم المساحيق الكثيرةعلى وجهها ظلت عيناها كما كانتا,مشتعلتين ونافذتين,عرفتها فورا,وماريا كذلك ..وهل تنسى امرأة امرأة أخرى أدارت دفة حياتها للأبد؟ جلست ماريا بهدوء وثقة ..طلبت من خبيرة التجميل « زوجته » طلاء جديدا للأظافر ..وكريم لعلاج الهالات السوداء ..طلبت كذلك إضافة بعض الامتلاء لخديها .. تأملتها خبيرة التجميل قليلاً ثم قالت : عزيزتي ...ينبغي علينا التوقف أحيانا عن محاولة تجميل أنفسنا كي لانزداد بشاعة.