لو كان نبيل فهمى وزير الخارجية قد مُكن من زيارة بريطانيا منذ شهور، لا تقى صدمة «صراحة وأمانة» البريطانيين، وحصل على إجابة مبكرة عن سؤال مشروع، أثير فى مصر بعد زلزال 30 يونيو، لماذا لم يتفهم ويقبل الغرب «طريقتنا الخاصة» فى تغيير رئيسنا حتى لو كان مختارا فى انتخابات حرة غير مسبوقة؟ المراجعة الداخلية الشاملة التى تجريها بريطانيا لعلاقتها بالإخوان كانت محور الزيارة وهمً الوزير الأول أملا فى إقناع البريطانيين بتغيير موقفهم الداعى لعملية سياسية شاملة لا تستبعد أحدا. وما لم يقل فى مصر رسميا هو أن البريطانيين شددوا على أن ما يجرى هو «مراجعة داخلية» قائمة على الأدلة والحقائق ولا يمكن دفعها فى اتجاه معين. واستوعب الوزير الرسالة، التى كانت خلاصتها «لا تبالغوا فى التوقعات». ولوحظ ،أخيرا، أن قطاعا من الإعلام المصرى توقف، على استحياء، عن التحليق فى «أوهام» أشيعت ، دون حساب، عن صدام بريطانى إخوانى وشيك يؤدى لطرد الاخوان من لندن بعد وضعهم بقائمة الإرهاب. وبدا أن هناك فى مصر عودة ، متأخرة ، إلى التعامل مع الحقائق وليس التمنيات. ولعل تلك تكون بداية لفهم موقفى بريطانيا، اللذين تعتبرهما مستقين، من ثورتى مصر. من هذه البداية قد ينبعث أمل فى أن يعطى الساسة المصريون أنفسهم فرصة للمراجعة بحثا عن إجابة تبدد الحيرة إزاء ما يراه هؤلاء الساسة تباينا فى المواقف فى بريطانيا من ثورتى 25 يناير و30 يونيو. وربما لم يصل لعلم هؤلاء أن البريطانيين هم أيضا حائرون مستغربون من حيرة المصريين. فبعد ثورة 25 يناير، استسلم البريطانيون لإرادة الشعب المصرى رغم تحالفهم مع نظام مبارك. وكان رئيس وزرائهم ديفيد كاميرون أول زعيم غربى يزور ميدان التحرير بعد الثورة وأنشد الإعلام والسياسيون المصريون شعرا فى كاميرون الذى قال وهو فى طريقه إلى القاهرة بعد تنحى مبارك: «هذه فرصة عظيمة لنا كى نذهب ونتحدث مع الذين يديرون مصر حاليا كى نتأكد من أن هذا فعلا انتقال حقيقى من الحكم العسكرى إلى الحكم المدنى». من ناحيتها، بالغت الدبلوماسية المصرية فى الإشادة بدعم بريطانيا لخيارات الشعب المصرى وثقتها المطلقة فى صوابها. وفى الذكرى السنوية الأولى للثورة، وقف أليستر بيرت، وزير شئون الشرق الأوسط حينها، بين المحتفلين فى السفارة المصرية فى لندن ينظم نثرا فى عظمة الثورة، ثم أخرج من جيبه حجرا قال إنه أخذه من ميدان التحرير ويضعه دائما على مكتبه ليذكره وزائريه بعظمة المصريين. وبادل السفير المصرى المسئول البريطانى الغزل معبرا عن امتنان مصر لدعم المملكة المتحدة لثورة المصريين. لكن الغزل لم يمنع بريطانيا عن المطالبة ب: حماية «الأقلية المسيحية» وزيادة مشاركة المرأة وعدم استبعاد أو عزل أحد وسيادة القانون، وزيادة الشفافية حتى بشأن أوضاع الجيش المصري. ولم تُتهم بريطانيا حينها بالتدخل فى شئون مصر. تجنب البريطانيون، على المستوى الرسمى، توصيف طريقة عزل مرسي. وظنوا بذلك أنهم مسكوا العصا من المنتصف. واعتبرت لندن ، فى مواجهة مواقف متشددة من جانب برلمانيين وجماعات حقوقية، أن كلام كاميرون يعكس تفهما للدعم الشعبى لتدخل الجيش. أما الأغلبية الكاسحة من وسائل الإعلام فوصفت، ولا تزال، ما حدث ب «الانقلاب». وبدلا من أن يعمل المصريون، من السياسيين والإعلاميين والمؤيدين للثالث من يوليو على شرح خصوصية الحالة المصرية، أسمعوا البريطانيين كلاما بدا لهم مدهشا يعوزه المنطق. ومن أمثلة ذلك: بريطانيا طرف فى مؤامرة عالمية على مصر، وتساند الإخوان الإرهابيين والنازيين الذين كانوا يحكمون، ولا مشاركة ولا مصالحة، والاجتثاث هو الحل. ولما نقل الإخوان جزءا من نشاطهم إلى لندن، باتت بريطانيا، فى نظر صاحب القرار السياسى والأمنى وذوى النفوذ الإعلامى فى مصر، وكرا للإرهاب ومركز المؤامرة. ولم يتنبه المصريون إلى أن فى هذه البلاد قوانين صارمة، وأن مصر لن تكون أكثر حرصا من بريطانيا، على أمنها. وكانت مفاجأة كبرى أن تخرج شخصيات نافذة، مثل مصطفى حجازى الذى غمز فى الإعلام الغربي، بما فيه البريطاني، متهما إياه بدعم الإخوان على مسيحيى مصر، وزعم ان هذا الإعلام تجاهل اضطهاد المسيحيين بعد 3 يوليو. وبدا أنه تجاهل حجم اهتمام الإعلام البريطاني، بملف الأٌقباط فى مصر بعد الثورة، وإفراده مساحات كبيرة لتغطية أحداث حرق الكنائس. والأمر الأكثر غرابة ، كما يراه البريطانيون، هو أنه كلما لمح المسئولون أو تحدثت وسيلة إعلام بريطانية عن الأخطاء بعد 3 يوليو، اتهموا بالنفاق رغم تنديدهم بالإرهاب. بل أن شخصيات مصرية، ممن تقدم نفسها بأوصاف يهتز لهيبتها الإعلام البريطانى، اتهمت كاميرون بأنه منافق ومتآمر على مصر. ودليلهم على هذا النفاق، هو أن كاميرون قال، أثناء أعمال الشغب فى لندن عام 2011 إنه عندما يتعلق الأمر بالأمن لا تحدثونى عن حقوق الإنسان. ولم يكلف أحد نفسه عناء البحث عن حقيقة المقولة. ولم يتبرع، أو يتجرأ، الجهاز الدبلوماسى والإعلامى المصرى على أن ينبه القيادات فى القاهرة بأن حكومة كاميرون واجهت عاصفة انتقادات حادة لمجرد التلميح بإمكانية التفكير فى استخدام خراطيم المياه فى مواجهة الشغب، وبأن كاميرون فاخر «بالدفاع عن حقوق الإنسان فى الداخل والخارج، لأن هذا جزء من التقليد البريطانى». خلاصة القول هو أن البريطانيين صدقونا وكانوا متسقين مع أنفسهم حريصين على مصالحهم، ولكننا اخترنا ألا نرى ذلك أو نفهمه، فكيف نتوقع منهم أن يفهمونا، أو يتفهمون «طريقتنا المصرية الخاصة» . لمزيد من مقالات عامر سلطان