تجربة الانتخابات الرئاسية لابد من إخضاعها لعملية مراجعة وتمحيص شاملة على أسس علمية محضة، لاستخلاص الدروس المستفادة، وأيضا ما اعتراها من أخطاء وشوائب، من أجل تجنبها فى تجاربنا الديمقراطية المقبلة، وأقربها سيكون انتخاب أعضاء جدد للبرلمان المعقود عليه الكثير من الآمال فى بناء الجمهورية الثالثة. وتطبيقا لهذه القاعدة، فإنه يجب لفت الأنظار لجزئية يلزمها دراسة مستفيضة خلال المرحلة المقبلة وتخص جماعات الضغط، إذ شهدت الانتخابات الأخيرة إرهاصات ومؤشرات لتكوين تكتلات تدافع عن مشاريع ومخططات مجموعات اقتصادية وسياسية ودينية، سعت بسبل مختلفة لإيصال رسالة للرئيس المنتخب بأنها قادرة وفاعلة على الأرض وباستطاعتها قلب الموازين وقتما تريد، وتود فى الوقت نفسه أن يكون لها حضورها وكلمتها المسموعة المؤثرة على المشهد، ولتحقيق ذلك فإنها تستغل أدوات عديدة لضمان وصول رسائلها، منها قنوات فضائية يمتلكها رجال أعمال كبار، وأصوات العائلات الكبيرة المسيطرة على الريف وتتمتع بنفوذ وسطوة على القاطنين فى القرى والنجوع، وكذلك منابر المساجد. وربما يطل من بيننا من يتساءل باستغراب: ألم تكن هذه الجماعات موجودة فى مصر فى العهود السابقة، وتجلت آثارها ومظاهرها بوضوح لا تخطئه العين فى زمن الرئيس الأسبق حسنى مبارك؟ نعم كانت موجودة، لكنها ظلت متأثرة أو بالأحرى أسيرة الجانب الفردي، بمعنى أنها لم تكن جبهات موحدة متفاهمة، فتحركاتها فى الأغلب الأعم كانت فردية تماما، فرجل الأعمال يريد المحافظة على مكاسبه ويسعى لزيادتها من خلال التقرب من الدائرة المحيطة بالرئيس، حتى يحصل على امتيازات، واعفاءات ضريبية، وأراض بأثمان بخسة، ويمنح رخصة احتكار السلع والمنتجات الاساسية المهمة، مثل القمح والحديد والمواد الغذائية، ويترجم هذا لحسابات بنكية تقدر بمليارات الجنيهات والدولارات، وفى المقابل فإنه يرد الجميل لأولى الأمر بدفع رشاوى فى صورة أموال سائلة، أو إدخالهم كشركاء فى المشروع، وكان يندر أن تجد تنسيقا جماعيا فيما بينهم إلا فى حالة ارتباطهم بصلة قرابة أو مصاهرة أو منفعة آنية يتعين الفوز بها قبل أن يخطفها منافس آخر. ولاشك فى أن التوجه نحو تشييد قواعد مغايرة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا فى ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية أصاب الكثيرين على الساحة بالتوتر والقلق، وهو ما شكل عامل ضغط عليهم لتوحيد الصفوف لمواجهة ما هو قادم ولا يدرون حجم قوته وعنفوانه. ولذا بدأ رجال الأعمال فى التقارب، لأن الهم مشترك، فهم يتوجسون خيفة من مؤشرات الحفاظ على القطاع العام وعدم التفريط فيه، وسعى الدولة لانتشاله من أزماته، وتعظيم الفائدة منه، ويعتبرون أنه سيتم التضحية بهم وسيتراجع دور القطاع الخاص، بل قد يطالبون بدفع مبالغ ضخمة لإنقاذ البلاد من متاعبها الاقتصادية والمالية، بعد أن كانوا أصحاب حظوة حتى الأمس القريب، خصوصا أن معظمهم تعود على الأخذ وليس العطاء. ويظنون أنهم فى معركة حياة أو موت وعليهم رص صفوفهم لخوضها والانتصار فيها بأى ثمن، لأنهم كانوا من الداعمين والمحركين لثورة 30 يونيو، وبالتالى فقد وضعوا اللبنة الأولى لجماعة ضغط تدافع عن مصالحهم، وتمكينهم من أن يسمع قولهم فى دوائر ودهاليز الحكم الجديدة. وإلى جانبهم رءوس الحزب الوطنى المنحل الذى ضم بين جنباته لسنوات طويلة شبكات متداخلة من المصالح لعائلات كبرى وليس بمقدورهم التنازل عنها بسهولة، وما يزيد هذه الشبكات تعقيدا وتشعبا أنها مرتبطة بالمحليات حيث نمت وترعرعت بذور الفساد وتغلغلت جذوره. ورأينا كيف أن المنتمين للحزب الوطنى روجوا لفكرة قيامهم بدور رجل الإطفاء المنقذ فى اليوم الثانى لانتخابات الرئاسة، عندما عانت اللجان لبعض الوقت من ضعف الاقبال على التصويت، ولسان حالهم يقول: لن تتمكنوا من الاستغناء عنا. وبالإضافة لهؤلاء تقف جماعة الإخوان بالمرصاد توجهها طاقة من الكراهية والحقد للوطن وللمواطنين، ويدرك الإخوان أنهم لن يستطيعوا العودة للسلطة مهما استخدموا من إرهاب وعنف واثارة للفتنة والبلبلة، بناء عليه فإنهم سيحاولون التخفى داخل جماعة ضغط مكونة من أحزاب أو جمعيات وحركات مدنية ودينية وثورية تستغل فى قادم الأيام كنافذة يطلون منها وتلبى مطلبهم فى البقاء، وظنى أنهم يعدون عدتهم الآن لتأسيسها، تمهيدا للمشاركة فى الانتخابات البرلمانية. ولم يتخلف حزب النور عن ركب الساعين لتشكيل جماعات ضغط، فهو يود استثمار موقفه الإيجابى بمساندة ترشح عبد الفتاح السيسى للرئاسة ودعمه ظاهريا بين أوساط السلفيين، وتعرضه لهجمات متتابعة من الإخوان، واستهداف منازل قيادات الدعوة السلفية والمساجد التى يلقون فيها دروسهم، ويرى النور أنه دفع فاتورة باهظة تعطيه الحق الكامل فى البقاء على أرض الملعب السياسي، لكن الشكوك تساوره وسوف يسعى لبناء جبهة متماسكة يضغط بواسطتها للحيلولة دون تعرضه للإقصاء والتهميش. وتتبقى القوى الثورية التى تعانى من تشوش الرؤية والانقسام، ولم تنجح بعد فى الظهور ككيان موحد، مما يجعلها ضعيفة التأثير وغير قادرة على المشاركة بفاعلية، وتبدو وكأنها لافتة يضعها البعض حينما تستدعى الحاجة. إن الانتخابات البرلمانية المنتظرة ستكون ساحة صراع ومنافسة حامية الوطيس بين جماعات الضغط الممثلة للأطراف السابقة، فالجميع يعلم أن البرلمان سيكون أداة بالغة التأثير على مجريات الأحداث فى البلاد بحكم الصلاحيات المخولة له فى الدستور وسوف يتنافس الكل على السيطرة على مفاصله عبر جماعات الضغط. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي