لا يمكن أن ينتهى عنه الحديث فجأة كما بدأ فجأة، وكأن شيئا لم يكن .. إنه الجنوبى الدائر فى فلك رحلة لا تنتهي.. بدأها هربا من قسوة الفقر وشظف العيش ببلدته بالصعيد، أملا فى فرصة يقتنص بها حياة أفضل فى مدن أكثر رواجا داخل مصر، أو دول أخرى خارج الوطن، ليقاسى مرارة الغربة الممزوجة بوحشة افتقاد الأهل والصحبة. هو «الوافد»، الذى شاهدناه محروما من الإدلاء بصوته فى غربته بالوطن، والمهاجر الذى قذفت به رحلة الحياة إلى دوائر الصراع من أجل البقاء. وإذا كان عدد المهاجرين إلى الخارج وصل إلى 8 ملايين مصري، فإن مثل هذا العدد يعانى الاغتراب الداخلي، هؤلاء الذين فرض عليهم القدر أن يحملوا لقب «الوافدين»، ويشكل الصعايدة نحو 70 فى المئة منهم، ويعيشون خارج محافظاتهم الأصلية بحثا عن لقمة العيش، ويترقبون حق العودة إلى مواطنهم الأصلية، على يد الرئيس الجديد، مع دخول برامج التنمية المتعددة القادرة على استيعاب طاقتهم البشرية الهائلة فى مشاريع للنهوض بمحافظاتهم الأصلية حيز التنفيذ. ومن أهم هذه المشروعات مشروع تنمية سيناء، ومحور قناةالسويس، وتنمية محافظات الصعيد عبر إنشاء ظهير صحراوى يحقق طفرة اقتصادية استثمارية تستوعب المهاجرين من أبناء تلك المحافظات وتقضى على نسب البطالة المرتفعة بها، وكذلك ما تم طرحه من استحداث 22 مدينة للصناعات التعدينية، وفتح فرص الاستغلال للمحاجر والمناجم، وتحديث وتوسيع العاصمة بأبعاد تصل لخليج السويس، وإنشاء شبكة طرق وخطوط سكك حديدية جديدة، ومشروع قومى لتنمية الاستزراع السمكى فى النيل والبحيرات وعلى طول الشواطئ المصرية، مع إضافة مدن ومراكز سياحية جديدة وهو ما يوفر ملايين فرص العمل المباشرة وغير المباشرة فى قطاع السياحة. حقوق ضائعة وآمال وأحلام كثيرة مؤجلة يضعها المهاجر عبر «صفحة محافظات السبت» على طاولة وأجندة الرئيس المنتخب لتحقيقها. الصراع مناجل البقاء لم يتخيل الجنوبى الهارب من دوائر الفقر المفرغة، أن، تلقى به رحلته إلى بيئة أشد قسوة من بيئته الأصلية التى تركها مهاجرا يحمل فى جعبته قليلا من الزاد وكثيرا من الأوهام والأحلام بالثراء. ورغم أن رحلات الهجرة الصعيدية، اتخذت مسارات عدة متمثلة فى السويس والإسماعيلية شرقا وبورسعيد والشرقية وبعض محافظات الدلتا شمالا، إلا أن القاهرةوالإسكندرية نالتا نصيب الأسد من تلك الهجرات، كونهما يمثلان عاصمتى المحروسة الأولى والثانية وبؤر الإشعاع الثقافى والتجارى بالبلاد. ولم تكن رحلة المهاجر الصعيدى إلى عروس البحر بسبب أنها: «إسكندرية بلد الهوا تشفى العليل من غير دوا». كما غنى لها الفنان الشعبى الصعيدى أبوالوفا السوهاجى الذى استوطن منطقة غيط العنب بالإسكندرية. فرغم سحر «ماريا» وجاذبيتها، فإن دافع الهجرة إلى الإسكندرية فى العقود الأخيرة لم يكن من أجل سحرها وهواها وإنما كان بحثا عن لقمة العيش من قبل عدد كبير من الصعايدة ممن يعملون فى مجالات التشييد والبناء وطائفة المعمار. ودفع تدفق تلك الفئات بكثافة إلى عروس البحر، إلى أن ترتدى الإسكندرية فى معظم أحيائها ومناطقها الشعبية وجها صعيديا متميز الملامح، يعكس حقيقة أن الصعايدة حاليا يمثلون ما يقرب من 40% من سكان المحافظة الساحلية الأهم فى مصر، حيث يتمركزون فى مناطق مثل الرمل وغيط العنب وباكوس ومينا البصل وغالبيتهم من السوهاجية فيما نجد مجموعات أخرى تنتشر فى مناطق العصافرة وسيدى بشر والمندرة وهم فى الغالبية من أبناء قنا. والأحلام مازالت ممكنة ورغم اختلاف حال الصعايدة بالإسكندرية اليوم عن الأمس من حيث الكم والفئة التى كانت اكثر ثقافة وأفضل حالا، وأقل شقاء، إلا أن الآمال ما زالت تراودهم فى غد أفضل. «أبو أشرف» عجوز الصعيدى تجاوز الستين من عمره، جاء من مغاغة إلى الإسكندرية عندما كان شاباً صغيراً باحثاً عن فرصة عمل لم يجدها إلا فى مجال المعمار الذى سرق عمره، ومع ذلك لم يستطع أن يبعد ابنيه أشرف وسعيد، بعد أن أنهيا الدبلوم، عن هذا المجال الذى لم يكتب عليه سوى الغلب والفقر على جبينه. وإن كان المشهد الخاص بتجمعات الصعايدة فى الإسكندرية أكثر وضوحا، فإنه فى القاهرة مركب ومعقد قليلا ربما لأن تاريخ هجرة الصعايدة إلى القاهرة كان أعمق من تاريخ توجههم إلى الإسكندرية، حيث عرفت القاهرة على مختلف عصورها صورا مختلفة للصعيدى فى شوارعها وبين أحيائها حيث الصعيدى طالب العلم، والصعيدى المبدع الباحث عن نقطة إنطلاق فى عاصمة الثقافة، والصعيدى التاجر الذى يبحث عن فرصة لاقتناص الثروة وتحقيق الثراء، والصعيدى المطارد الهارب من ثأر يطارده ليل نهار. ورغم تنوع الصور التى تجسدت من خلالها الشخصية الصعيدية فى شوارع القاهرة قديما، فإن تلك الصور توارت حاليا ليتصدر المشهد فى الأعوام الأخيرة مثلما هو الحال بالإسكندرية ذلك الصعيدى الهارب من الفقر الباحث عن فرصة للعيش ووسيلة للخروج من المستنقع حتى وإن كانت تلك الفرصة تعنى مزيدا من الانغماس فى عشوائيات القاهرة وتجمعاتها المهمشة. ويعكس الرصد التاريخى لهجرات الصعايدة إلى القاهرة ومناطق تجمعهم فيها بوضوح تباينا كبيرا، بين الأجيال الأولى التى قدمت إلى القاهرة فى عصور نشأتها الأولى وحتى نهاية فترة الحقبة الخديوية بمصر والتى كانت تضم الصفوة من أبناء الصعيد، وبين الأجيال التالية التى قدمت فى مراحل تالية لثورة يوليو من خلال ما يمكن أن نسميه نزوحا جماعيا من مناطق بعينها إلى عشوائيات القاهرة ومناطقها المهمشة بحثا عن لقمة العيش وفرصة حياة أفضل. وأول ما عرفته القاهرة من صور الصعيدى هو ذلك الصعيدى طالب العلم الذى اتجه صوب الأزهر الشريف خاصة فى العهد المملوكي، حيث شهد الأزهر فى عهد الأمير عبدالرحمن كتخدا، ترميما شاملا وتوسعة ضخمة أقيم شمالها مبنى واسعا له باب كبير يؤدى إلى حارة كتانة يسمى «باب الصعايدة» لينطلق من ذلك الباب تاريخ بدء انتشار أبناء الصعيد فى القاهرة القديمة خصوصا فى المناطق والأحياء المحيطة بالأزهر. واستمرت تيارات هجرة أبناء الصعيد إلى القاهرة فى العصور المتتالية ليضاف إلى الصعيدى طالب العلم، ذلك الصعيدى الباحث عن فرصة للثراء من خلال التجارة فى القاهرة وأسواقها التاريخية ليشهد سوق مصر القديمة «أثر النبي» الذى أنشأ فى النصف الأول من القرن العشرين أزهى عصور هجرات الصعايدة الباحثين عن الثراء من خلال التجارة. وهكذا نجد أن ظاهرة هجرة أبناء الصعيد إلى القاهرة من الظواهر المستقرة منذ زمن بعيد، وهو زمن يسبق بكثير أول رصد لها والذى تم فى العصر الحديث منذ تعداد السكان الأول لمصر عام 1897 م . ماقبل يوليو ومابعدها ويمكن تقسيم هجرة أبناء الصعيد إلى القاهرةوالإسكندرية فى العصر الحديث إلى فترتين الأولى تمثل ما قبل ثورة يوليو والتى تميزت بتيار هجرة ضعيف ولكن يتميز بالاستقرار أتى إلى القاهرةوالإسكندرية بحثا عن فرص تعليم أفضل للأبناء أو الحصول على خدمات صحية وثقافية لم تكن موجودة فى صعيد مصر آنذاك وهو ما انعكس على نوعية الصعايدة القادمين فى ذلك الوقت والذين كانوا أفضل حالا من شريحة كبيرة من أبناء القاهرةوالإسكندرية المقيمين فيها سواء من ناحية الطموح الثقافى أو الاقتصادي. ومع التحول الصناعى الذى شهدته مصر بعد ثورة يوليو 1952 م وإقامة مناطق صناعية عديدة حول القاهرة وفى الإسكندرية بدات مرحلة جديدة من الهجرة الداخلية فى مصر، وشهد الصعيد نزوحا كثيفا من أبنائه كان قوامه الطبقة العمالية التى وفرت لها الدولة فى ذلك الوقت العمل والمسكن والرعاية الإجتماعية والصحية وأسست لهم تجمعات سكنية ضخمة. ومع الزيادة السكانية الرهيبة وتفاعلها مع ترهل الجهاز الإدارى للدولة وانتشار البطالة وتدهور أحوال التعليم والاحوال الاجتماعية فى ريف وصعيد مصر بشكل عام تواصلت الهجرات الصعيدية على تلك المناطق مع اختلاف نوعية القادمين حيث بدأت تلك المناطق فى استقبال سيل من العاطلين والأميين وذوى الشهادات المتوسطة الذين تركز نشاطهم فى مجال العمالة غير الماهرة. ويرصد الدكتور «أيمن زهري» مؤسس ورئيس الجمعية المصرية لدراسات الهجرة فى دراساته الميدانية العديدة أحوال المهاجرين من أبناء الصعيد إلى الشمال فى العقدين الاخيرين، مؤكدا أن الدافع الأساسى للهجرة فى الوقت الحالى تمثل فى عوامل الطرد فى محافظات ومدن الصعيد والمتمثلة فى ارتفاع معدلات البطالة وصغر حجم القطاع غير الرسمى فى إقتصاديات هذه المحافظات فى مقابل عوامل الجذب التى تتميز بها القاهرة الكبرى من تركز للأنشطة الاقتصادية والمالية، والطفرة الكبرى فى قطاع البناء والمقاولات فى الفترة الأخيرة. وتوضح تلك الدراسات أن معظم هؤلاء المهاجرين الحاليين إلى القاهرةوالإسكندرية من أبناء الصعيد يعيشون فى ظروف صعبة ومناطق مهمشة ويقيم بعضهم إقامة دائمة فى المبانى تحت الإنشاء التى يعملون بها كما يضطر بعضهم للإقامة فى أماكن مزدحمة تفتقد التهوية وبدون مرافق فى المناطق العشوائية والمقابر لضغط النفقات وإرسال ما يستطيعون من مال لأسرهم فى صعيد مصر. وهكذا فإن هجرات أهالى الريف والصعايدة إلى القاهرةوالإسكندرية والتى بدأت طوعية واختيارية بدافع الطموح العلمى والثقافى والاقتصادى تحولت وفقا لما تؤكده دراسات الدكتور أيمن زهرى إلى هجرة من أجل البقاء والحصول على أدنى مقومات الحياة.. هجرة شبه قسرية تفسر تلك الحالة من الانحدار لمنحنى هجرات الصعايدة إلى الشمال والذى أصبح معه أبناء الصعيد يشكلون النسبة الغالبة من قاطنى العشوائيات وتجمعات المهمشين فى القاهرة والإسكندرية