واصَلَ الأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي، حملتَه على الأزهرِ فيما كتبَه بأهرام الأربعاء الموافق 14 مايو 2014م تعليقًا على استِنكارِ الأزهرِ لجماعةٍ مُنحَرِفةِ النَّفسِ والطَّبْعِ والدِّين والخُلُق، تَنتَسِب إلى الإسلامِ، لاختِطافها عددٍ من الفتَيات في «نيجيريا»، على الصورة التي نشرَتها وسائلُ الإعلام، وأَطلقَت على نفسِها جماعة «بوكو حرام»، وذلك بعُنوان: «الاستنكار لا يكفي». ولا أدري فِيمَ يُنكِر الأستاذُ الكاتبُ على الأزهر؟ هل لأنَّ الأزهرَ في بَيانِه أوضَحَ أنَّ ما ارتكبَتْه هذه الجماعة من جُرمٍ يَتناقض تمامًا مع تعاليم الإسلام ومَبادئه؟ أم لأنَّ الأزهر طالَبَ المنظَّمات الدوليَّة المعنيَّة بحقوق الإنسان والمجتمع الدولي كافَّةً بسُرعة التحرُّك للإفراج عن المختطَفات، واتخاذ كافَّة الإجراءات ضدَّ الجماعة المذكورة؟ لقد تقلَّبتُ بذِهني بين الإجراءات التي كان يُمكِن أنْ يتَّخِذَها الأزهرُ وقصَّر فيها، فما وجدتُ إلا إجراءً واحدًا ربما هو الذي يَنْعاه عليه الكاتب؛ وهو أنَّه كان على الأزهر أنْ يُشكِّل قوَّةَ تدخُّلٍ سريعٍ من كبار العلماء والمشايخ مُزوَّدة بكافَّةِ الأسلحة والمعلومات والتقنيات الحديثة لمحاصَرة الجماعة الإرهابيَّة وتخليص الرهائن من بَراثِنها، مع ضَمان الحِفاظ على حياتهنَّ وسلامتهنَّ! يالها من غرابة، فالكاتب نفسه في مقالٍ سابقٍ بأهرام 24 أبريل يرفُض أن يتَحوَّل الأزهر إلى سُلطةِ منعٍ عندَما بيَّن رأيَه في عرض فيلم «نوح» الذي يتمُّ فيه اختزال النبوَّة والعِصمة بكلِّ ما تَحمِلُه من أبعادٍ غيبيَّةٍ، ومَعارجَ قُدسيَّةٍ، وأنوارٍ ربانيَّةٍ، إلى صورٍ بشريَّةٍ مُبتَذَلةٍ على مَقاسِ الإنسان العادي مجرَّدًا عن أبعادِه الغيبيَّة الإيمانيَّة، فينحدِر بذلك التعبيرُ ليَعكِسَ كلَّ ما هو خسيسٌ في الإنسان، ويُنمِّي فيه أدنى الملكات بدلاً من الارتقاء به إلى آفاق الحقائق الغيبيَّة والمعاني السامية والمبادئ العُلويَّة. فبينما يَرفُض الكاتبُ -في فيلم «نوح»- بيانَ الأزهر لرأيِه، ويَعتِبرُه سُلطةَ منعٍ يتحوَّلُ فيها رجالُه من دُعاةٍ ومُعلِّمين ومُرشِدين إلى أصحاب سُلطةٍ بالاتِّفاق والتحالُف مع السُّلطة السياسيَّة، يرفُض في واقعةِ الاختطاف استنكارَ الأزهر، ويُجهِد نفسَه في تَلمُّسِ مَواطِن للأخطاء والتقصير، فلمَّا لم يجد راح يَتتبَّعُ شواذَّ ما وُجِدَ في التراث الإسلاميِّ القديم، أو شوارد ما تعلَّقَ به من دخيلٍ ومدسوس، كما هو الشأن في كافَّة الحضارات والأديان والأنظِمة، أو ما تشابَه منه ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِه، فيَقَرُّ في ذِهن الناس الشكُّ في تُراثِهم وموروثهم؛ فتتعمَّق الهزيمةُ الحضاريَّة لدَيْهم، ويُسارعون أكثر في الانصِياع إلى ما يُلقَى إليهم من فَضلات الحضارات الأخرى، كما قال النبيُّ، صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قُلْنَا: مِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: لا، أَنْتُم يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ؛ يَنْزَعُ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ، قِيلَ: وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ». ولا أدري الوهن اليوم إلا تلكَ الهزيمةَ الحضاريَّةَ التي يتولَّى كِبرَها البعض ممَّن يَعتَبِرون أنفسَهم رُوَّادًا للفِكر والثقافة، وما هي بريادةٍ، وإنما هو زَيْغٌ في القلوب يَدفَعُ أصحابَه إلى تتبُّعِ المتشابِه والدَّخِيل والمدسوس والشاذِّ والشارد. أمَّا عن التُّراث الذي ما عُرِفَ الأزهرُ بريادته وقيادته العالميَّة التاريخيَّة الحضاريَّة إلا باعتنائه بتنقيح هذا التراث وتجليتِه وتحريرِه وترتيبِه وتحقيقِه على الصورة التي استقرَّت في تعلُّمه وتعليمه على مدَى عشرة قرونٍ مضت هي رأس مال الأزهر الشريف، هذا التراث ما زال رسالةَ الأزهر العلميَّة والحضاريَّة، وما زال محلَّ عنايةِ الأزهر الشريف بعُلَمائه وطلابه ومُحقِّقيه وباحثيه ودارِسيه، بل ومُحبِّيه أيضًا، لا كارهيه أو مُحقِّريه أو حاسِدِيه. إنَّ بدعةَ التحامُل على التراث، دونما تحقيقٍ ولا إنصاف، تهافَتَ عليها بالعدوى والتقليد كلُّ دَعِيٍّ تافهٍ أو مُتعالِمٍ أو مُتجاهل أو مُغرِض يُطفِئ غِلَّه في شهوتِه بالوُلوغ في مذاهب السادة والأكابر من عُلَماء الأمَّةِ، يتلمَّس نقيصةً هنا وهفوةً هناك وشذوذًا هنالك، وهو يعلم أنَّه عندما ينتقَّصهم إنما ينتقَّصُ تراثَهم، وأنَّه بانتقاصه هذا التراث إنما ينتقِص الإسلامَ نفسَه، وهكذا كان المستشرِقون الذين درَج كثيرٌ منهم على تلمُّس المعايب للإسلام من خِلال تتبُّع التراث بهذه النيَّة الخبيثة، وكان الشرفُ دائمًا في الأزهر الشريف أنْ يتحرَّى العدالةَ العِلميَّةَ، ويلتزم في مناهجه أصولَ البحث المنزَّه عن الغاية، ويقف ممَّا عسى أنْ يُرجِّح صدورَه عن السادة الأكابر من أئمَّة هذا التراث ممَّا قد يكونُ خطأً أو كالخطأ من بعض الوجوهِ، موقفَ المعتذِر عن النفسِ البشريَّة، فليس أحدٌ معصومًا عن الخطأ إلا الأنبياء الذين أجاز البعضُ حتى عليهم الخطأ في غير الوحي، وإنْ كان هذا الجواز يصدُر -في رأينا على الأقل- عن جهل هؤلاء بمعاني العِصمة والنبوَّة والخطأ والصواب. إنَّ الكاتب أعلَمُ من أمثالي بما وقَع من دَخِيلٍ ومدسوسٍ على الكتب المقدَّسة السابقة على الإسلام، وعلى عُلوم الإلهيَّات والفلسفات القديمة والحديثة، في كلِّ حضارات الدنيا وعلى مَدار تاريخِها الطويل، ، والحمدلله الذي عصم القرآن من ذلك «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، والجميع يعلم أنَّ عُلومَ الحديث من مصطلحٍ، وجرح وتعديل، وتخريج، وغريب الحديث، ومُشكِل الحديث، والتي تَنفَرِد بها أمَّةُ الإسلام عن غيرها من الأمم، لم تُوضَع إلا لمجابهةِ هذا الدَّسِّ والتحريف والكذب الذي أصابَ سُنَّةَ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في أزمنةٍ مُعيَّنةٍ، لتصل إلينا صحيحةً نقيَّةً مُحقَّقةً مُنقَّحةً، كذلك علومُ القرآن والتفسير لمواجهة ما تطرَّق إلى التفسير من يهوديَّات وخُرافات وتأويلات، وعلم الكلام لمواجهة ما تسرَّب إلى العقائد من إلحاديَّات وأخيِلة وصور عقليَّة مُضلِّلة، وأصول الفقه وقواعده لضَبط ما شابَه أحكام الفقه من شطط وإغراب وافتراضات وحِيَل بالاعتماد على الشُّبهة والحكم بالهياكل اللفظيَّة والقضايا الصوريَّة، وعلوم التصوُّف وقواعده لمواجهة ما شابَ السلوكَ من تحريفٍ وتخريفٍ وشطحٍ، وهكذا في سائِر العُلوم. يَبقَى تلك التعبيرات والمصطَلحات التي يَستخدِمُها الكاتب في سِياق كلامه، مثل: مؤسَّسة كهنوتيَّة، ونظام دِيني مُقدَّس، وغيرها من العِبارات والمعاني التي تردُّنا إلى تاريخ الثورات الأوروبيَّة ضدَّ الكنيسة وأنظِمة الحُكم الاستبداديَّة في الغَرب آنَذاك، فهو يَعلمُ أنَّ الأنظمة الكهنوتيَّة لا تُوجَد إلا حيث تكونُ العِصمة للبشَر من غير الأنبياء، وأنَّ الإسلام لا يَعرِفُ عصمةً لغيرِ الأنبياء من البشَر، فكلُّ ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوُّابون، كما جاء في حديثِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والأزهر مؤسَّسة عِلميَّة لا كهنوتيَّة، وفي الأزهر علماء دِين لا رجال دِين. ولكن ما زال هناك أناسٌ يأبَوْن -ربما بسببِ عُمق الهزيمة الحضاريَّة في نُفوسِهم- إلا أنْ نَعِيشَ تاريخ غيرِنا، وحضارة غيرِنا، ونُفكِّرَ بعقول غيرِنا، ونسمع بأذانِ غيرنا، وننظُر بعيون غيرِنا، ولكنْ يأبى الأزهر إلا أنْ نعيشَ حضارتَنا بعقلِ اليوم، وتاريخَنا بحُكمِ زماننا، وتُراثَنا وفقًا لواقعِنا، وحياتَنا بعيونِنا، ومعلوماتنا بأذانِنا. ونستغفِرُ اللهَ ممَّا جرَى به القلمُ دون نيَّةٍ صالحةٍ أو إصابةِ حقٍّ. لمزيد من مقالات د. محمد مهنا