قبل أيام أعلن فوز الكاتبة المكسيكية آلينا بونياتوفيسكا بجائزة ميجويل دي سرفاتيس الإسبانية عن أعمالها التي تناولت قضايا الفقر والفقراء. ورغم أن العوز ببعديه المادي والمعنوي حالة مزمنة علي مر العصور، تناولها خبراء الاقتصاد وعلماء الاجتماع ووظفها الساسة، يظل للأوراق الأدبية التي عرضت للحالة بشكل مباشر أو ضمني فضل التكثيف الدرامي، ولملمة الأبعاد والأسباب والتداعيات علي مستوي الفرد والجماعة. فما بين العوز المادي وفقر الروح حكايات وأسرار، بحس مرهف و بوعي بوطأتهما علي النفس البشرية، رواها المبدعون في كل زمان و مكان، وربما يكون في استعادة بعض منها ما يدفع من بيدهم الأمر لفتح ملفات تهدد سلامة المجتمع وسلام المصري أفندي، ثروة مصر الحقيقية. فبينما تعرف المعاجم اللغوية العوز أو الفقر بأنه الحرمان الشديد من أسباب الحياة الرضية كالتعرض للجوع وافتقاد المأوي والملبس والعلاج، وتحدده قواميس علم الاجتماع بخط الفقر الذي يعكس عجز الفرد عن الوفاء بتوفير متطلبات الغذاء، الملبس، والمأوي، وبالمستوي المعيشي المنخفض، تناول الأدب الفقر بمنظور أرحب ربط بين أجزاء متناثرة، يبدو للوهلة الأولي أن لا علاقة لبعضها بالبعض الآخر وإن كانت في تكاملها ترسم صورة دقيقة تتماس وتجسد الهم الإنساني ماديا ومعنويا وعزلة المحروم عن الواقع واغترابه في وطنه. وهنا تتداعي للذهن قائمة طويلة لأعمال أدبية محلية وعربية وعالمية كان الفقر المادي والرمزي، الوحي والمحور فيها كقصص أنطون تشيكوف وروايات مكسيم جوركي وتشارلز ديكنز، وبؤساء فيكتور هوجو، ومؤلفات لنجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيي حقي وإبراهيم أصلان وخيري شلبي وصنع الله إبراهيم ومحمد البساطي، بالإضافة لروايات عربية مثل «ترمي بشرر» الفائزة بجائزة بوكر العربية لعام 2010 للكاتب السعودي عبده خال ورواية «فخاخ الرائحة» للكاتب السعودي يوسف المحيميد وثلاثية «الخبز الحافي» و«وجوه» و«الشطار» للكاتب المغربي محمد شكري، ورواية «نقمة المهمشين» للكاتب التونسي الطيب الطويلي. فما بين فضاءات الواقع والفنتازيا، رسم الأدب صورا للفقر لم يفقدها عدم مباشرتها تكثيفا يمس القلب والعقل، ويبوح بالمسكوت عنه من أسباب وتداعيات. ففي «فاصل دهشة» الروائي المصري محمد الفخراني، يتكشف الوجه القبيح للفقر حيث العنف والحشيش، وغياب الشرعية والأخلاق. ورغم أن مشهد الصغير أوليفر فيما يستجدي الطعام في دار الأيتام ومظاهر الظلم الاجتماعي في رواية «اوليفر تويست» تعدان الأشهر أدبيا في تجسيدهما للعوز المادي، أدعي أن المسخين الصغيرين اللذين خرجا من عباءة الشبح مارلي في رواية ديكنز القصيرة «ترنيمة عيد الميلاد» والذي أطلق عليهما الكاتب اسم «الحَاجة و الجهل» من أصدق التداعيات المأساوية للفقر بمستوييه المادي والرمزي. وبينما تجسد رائعة الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي «الجريمة والعقاب» في سياقها العام نزعة الكاتب الفلسفية، وتعكس تأملاته في الأخلاق والخير والشر والبعد النفسي لشخصية البطل «راسكولينوف» الذي يؤدي به لنهاية مأساوية، إلا أن أحداث الرواية ومصائر شخصياتها تفضح التهرؤ الأخلاقي والنفسي والاجتماعي الذي تفرزه حالة العوز وكأنها تكرر ما أوجزه نجيب محفوظ في أولاد حارتنا عندما كتب «كيف يتسني للحب و السلام أن يعيشا بين الفقر ونبابيت الفتوات»!! في سياق مواز تطالعنا سطور عرضت للعوز من منظور فلسفي تأملي. ففي رائعته مأساة الحلاج يقول صلاح عبد الصبور «ما الفقر ؟ -ليس الفقر هو الجوع إلي المأكل أو العري إلي الكسوة-الفقر هو القهر- الفقر هو استخدام الفقر لإذلال الروح- الفقر هو استغلال الفقر لقتل الحب وزرع البغضاء». وفي سياق مشابه يغلب فيه البعد الفلسفي عند أدباء المهجر يعرض جبران خليل جبران لمفهومي الفقر والغني من منظور تأملي، فيحيلهما إلي رحابة أو ضيق أفق النفس البشرية، إذ يري أن الحياة كريمة لكن الإنسان عاجز عن الأخذ والقبول لضيق حقيبته «ليت لي ألف يد منبسطة أمام الحياة والأرض بدلا من هذه اليد المستحية القابضة علي حفنة من رمال الشاطئ»... ولأنني حتي اللحظة لا أستطيع أن أجزم بأن أيا من العوزين، المادي و المعنوي، أسبق علي الآخر وأيهما السبب أو النتيجة، ولأني أظن أن عوز الروح خسارة لنفس لا تعوضها مكاسب الدنيا كقول السيد المسيح وحديث نبي الرحمة «ليس الغني عن كثرة العرض إنما الغني غني النفس»، ولأن مسخي مارلي (الحَاجة والجهل) مازالا يخايلاني أكرر أبيات الحلاج «الله يقول لنا : كونوا أحباباً محبوبين- والفقر يقول لنا: كونوا بغضاء بغاضين- اكره... اكره... اكره- هذا قول الفقر!». لمزيد من مقالات سناء صليحة