لم يمض على الاحتفال بمناسبة اليوم العالمى للمياه إلا أسابيع معدودة وعلت أصوات الناس بالشكوى من تلوث مياه الشرب التى تتكرر دائما نتيجة لتغير الطعم أو اللون أو الرائحة. ورغم تضارب الأرقام واختلاف التقارير عن نوعية المياه بين الناس والجهات الحكومية، إلا أن أسباب التلوث معروفة وأماكنها محددة ومرصودة،ويساهم فيها المواطن بشكل كبير، إما بإلقاء المخلفات السائلة والصلبة أو بغسيل الأوانى والملابس والاستحمام فى مياه النيل وعلى ضفافه،ناهيك عما تقذف به المصانع. تحذيرات دولية وعلى الرغم من وجود ترسانة من القوانين لمواجهة التلوث فى نهر النيل مثل القانون 4 لسنة 94، ومن قبله القانون 48 لسنة 82 الخاص بحماية نهر النيل والقانون 4 لسنة 92 لحماية المجارى المائية من التلوث وتحريم الإسلام لكل فعل يؤدى إلى تلوث الماء أو البيئة عموما حيث يقول الله تعالى فى سورة الأعراف (ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها)، ويقول النبى صلى الله عليه وسلم "اتقوا الملاعن الثلاثة.. التبرز فى الماء الراكد وفيما يستظل الناس وفى الطريق".. وكلها تهدف إلى الحفاظ على الموارد المائية. وواقع الحال يشير على المستوى الرسمى إلى أن نهر النيل قد توزع ماؤه بين القبائل، حيث تعددت الوزارات والهيئات والمجالس المسئولة عن المحافظة على النهر وتنميته.والحقيقة على أرض الواقع توضح وجود حالة من التقاعس الشديد عن حماية أهم مانملكه من ثروة. ألا وهو نهر النيل الذى قدسه الأجداد ولوثه الأحفاد. أكد ذلك الحوادث المتكررة طوال السنوات السابقة مثل كارثة تسرب 110 أطنان من السولار نتيجة غرق صندل فى مياه النيل بأسوان كانت حمولته 240 طن سولار وأثبتت المعاينة المبدئية أنه متهالك، وسقوط سيارة نقل بمقطورة محملة بحوالى 40 طن سولار وبنزين فى ترعة بسوهاج، مما يدل على عدم وجود رقابة متكاملة لمراجعة وفحص مدى صلاحية وسائل النقل على الأرض أو فى الماء. حذرت الأممالمتحدة خلال تقريرها عن المياه فى العالم من أن حاجة البشرية إلى الغذاء ستزداد بنسبة 55% بحلول عام 2030، وسيكون من آثار ذلك تزايد الطلب على مياه الرى التى تستغل حاليا حوالى 70%من إجمالى كميات المياه العذبة نتيجة زيادة عدد سكان الأرض إلى 9.3 مليار نسمة بحلول عام 2050، مما يعنى ازدياد الطلب على الماء بنحو 90 مليار متر مكعب سنويا وهو مايعادل طاقة نهر النيل فى السنة، أى أن العالم فى حاجة إلى نهر جديد سنويا لمواجهة الانفجار السكاني. فى الوقت نفسه وصف معهد استوكهولم الدولى للمياه الوضع الحالى لمصادر المياه فى العالم بأنه "صورة قاتمة" وأن الدول النامية تلقى بحوالى 70% من مخلفاتها الصناعية فى المياه دون معالجة مما يعرض مصادر المياه الصالحة للشرب للتلوث الشديد. وللأسف ليست هذه هى المرة الأولى - ونتمنى أن تكون الأخيرة- التى تكشف فيها "الأهرام" عن التلوث الذى يتعرض له نهر النيل من جراء الصرف الزراعى المليء بالكيماويات والصناعى المشبع بالعناصر الثقيلة والصحى الخام الذى يجمع بين هذا وذاك،وتأثير هذا التلوث على الماء والغذاء والصحة العامة للمصريين كبارا وصغارا.. وطالبت "الأهرام" مرارا بضرورة وقف كل أشكال الصرف حتى لا نخسر صحة أبنائنا ومواردنا الطبيعية والسياحية والاقتصادية, وهذا ما يحدث بالفعل حيث تم من قبل رفض استيراد إنتاجنا من البطاطس بسبب العفن البني،بالإضافة إلى أسماك المزارع والبحيرات لأنها تروى بمياه الصرف الصحى الخام، وكذلك أسماك النيل الذى تصب به كل أنواع التلوث، حيث كشفت الدراسات العلمية أن 60% من إنتاج مصر من الأسماك ملوث, وذلك على حد تعبير الدكتور مجدى توفيق أستاذ البيئة المائية والتلوث بعلوم عين شمس,وأوضح أن من حصيلةخسائر تلوث نهر النيل اختفاء 33 نوعاً من الأسماك التى تحيا بمياه النهر فى حين أن هناك 30 نوعا آخر فى طريقه إلى الاختفاء، وتعتبر تلك الظاهرة بمثابة مؤشر شديد الخطورة ينبه بضرورة حماية الثروة السمكية والأحياء البحرية من التلوث الذى يدفع بها إلى الاختفاء والانقراض. وقال الدكتور مجدى توفيق إن مساحة مخلفات المنازل من الصرف الصحى تقدر بحوالى 5 مليارات متر مكعب سنوياً ،يتم معالجة 2 مليار متر منها فقط فى حين أن هناك 3 مليارات متر يتم صرفها بنهر النيل. كما أن تبعات تلك الكميات الهائلة من الملوثات التى يتم صرفها بنهر النيل أوضحتها نتائج دراسة صدرت مؤخراً مفادها أن هناك آلاف من الأطفال يموتون سنويا بالنزلات المعوية جراء تلوث المياه، وأوضحت الدراسة كذلك وجود ارتفاع ملحوظً بنسبة مرضى الفشل الكلوى لدى المصريين بسبب تلوث المياه بدرجة تبلغ معها نسبة الإصابة بالمرض حوالى أربعة أضعافه بالعالم ،مشيراً إلى أن هناك حوالي13 ألف حالة فشل كلوى و60 ألف حالة سرطان مثانة نتيجة للتلوث. وأشاردكتور توفيق إلى أن الدراسة أوضحت كذلك أن تلوث نهر النيل أدى إلى خسارة كبيرة بالإنتاج الزراعى وأن 50% من فاقد الإنتاج الزراعى سببه الرئيسى يعود إلى تلوث المياه.وأضاف أنه وفقا لتقرير صادر عن وزارة البيئة فإن الحكومة المصرية تخسر حوالى 3 مليارات جنيه سنوياً نتيجة لملايين الأطنان من الملوثات الصناعية والزراعية والطبية والسياحية التى تلقى بنهر النيل سنويا. ويقترح الدكتور مجدى توفيق لمكافحة تلوث المياه اللجوء إلى المقاومة الميكانيكية والبيولوجية بدلاً من المبيدات الكيميائية واختيار أقلها سمية واستخدام منظفات قابلة للتحلل مثل الصابون الذى لا يضر بالبيئة واستخدام السماد البلدى بدلاً من الكيميائى ،مع عدم إلقاء الفضلات والقمامة والحيوانات النافقة فى مياه النيل وروافده. أنواع الملوثات ويشير الدكتور أشرف سليم الأستاذ بمركز علاج السموم الإكلينيكية والبيئية بقصر العيني،أن الفلزات الثقيلة مثل الزئبق والرصاص والزنك لها تأثير شديد السمية ولها القدرة على التراكم فى أنسجة النبات والحيوان لذا تعتبر النباتات التى تروى بمياه الصرف الصحى غير المعالجة ضارة بالنسبة للإنسان والحيوان وبعض الملوثات العضوية والكيمائية تسبب الإصابة بالأورام والفشل الكلوى للأفراد نتيجة استهلاكهم لأسماك المجارى المائية الملوثة بمياه الصرف الصحى والصناعى ،وكذلك نتيجة تناولهم الخضراوات والفواكه المسمدة بمخلفات الصرف الصحى غير المعالج كما يحدث فى كثير من الأماكن. وتقول الدكتورة نشوى ممدوح السمرة أستاذ ورئيس قسم طب الأطفال بكلية الطب بجامعة الفيوم إنه بقدر تعدد أنواع الملوثات التى تصيب الماء تتعدد الأمراض التى تصيب الإنسان جراء استعمال هذه المياه الملوثة،وخصوصا الأطفال لأنه يمثل خطرا حقيقيا على صحتهم وبخاصة الذين لديهم مشاكل مرضية مزمنة وكذلك الحوامل والمرضعات. غسيل الشبكة وأكد أحمد أبو الرى مدير إدارة خدمة المواطنين ورئيس الوحدة المحلية لقرية أبو زعبل سابقا أن تلوث مياه الشرب يختلف من منطقة لأخرى وحسب نوعية المياه التى يستخدمها المواطن فالأماكن التى بها محطات أبار ارتوازية أى مياه جوفية تسحب من باطن الأرض مباشرة وتمر على أنابيب كلور وتضخ فى خطوط وتأخذ طريقها الى صنبور المواطن دون معالجات، أما المياه التى تسحب من نهر النيل أو من شرايينه (الترع) فهى تمر بمراحل معالجة عديدة لتخرج المياه نقية وصالحة للشرب، وشكوى المواطنين من الروائح الكريهة تكون دائما فى المناطق التى تمر بها خطوط مياه قديمة ولا يتم غسلها بصفة دورية منتظمة نتيجة لعدم وجود (حنفيات حريق ) فى الشوارع،أو يكون لدى المواطنين "طلمبات حبشية" لاستخدامها عند انقطاع المياه عنهم،وهنا قد تسحب المياه الجوفية المشبعة بالصرف الصحي،اذا كانت المنطقة بها بيارات صرف غير صحي،أى تعانى المنطقة من عدم وجود شبكة للصرف الصحي. حل المشكلة ويرى الدكتور أشرف عبد العزيز منصور الأمين العام للاتحاد العربى للتنمية المستدامة والبيئة أن الحل يكمن فى الحفاظ على نهر النيل والتوقف عن تلويثه مع وضع جدول زمنى لتوفيق أوضاع المصانع التى تصرف على نهر النيل والاهتمام بتوصيل الصرف الصحى للقرى ،والإصلاح الفورى لخطوط المياه، ونشر ثقافة ترشيد الاستهلاك حيث تعتبر مصر من الدول الفقيرة مائيا، ويعتبر سكانها تحت خط الفقر المائي، خصوصا أن حصة مصر من مياه نهر النيل ثابتة عند 55.5 مليار متر مكعب طبقا لاتفاقية الخرطوم عام 1959 عندما كان عدد سكان مصر 23 مليون نسمة فقط، بينما بلغ الآن أكثر من 84 مليون نسمة، وتراجع نصيب الفرد من الماء، حيث حذر المجلس القومى للإنتاج والشئون الاقتصادية من أن مصر مقبلة على أزمة مياه، متوقعًا انخفاض متوسط نصيب المواطن إلى نحو 450 متراتقريبا بحلول عام 2025.