ولا يمكن أن ننسى بالطبع في جنازة ماركيز مشهد تطاير وتساقط الفراشات الورقية الصفراء تلك التى اندفعت اليها في لحظة ما امرأة جميلة (ترى صورتها مع هذه الكلمات) لتضيف جمالا وبهجة للمشهد الاحتفائي والاحتفالي الذي عاشه عن قرب المئات وعايشها عن بعد الآلاف ممن عشقوا ماركيز وكتاباته، والأهم أنهم وجدوا فيه صديقا صادقا وعزيزا وبين سطوره سكنا لخيالهم وأفقا لأحلامهم. ولذلك كان فراقه مؤلما والاحتفاء به ضروريا مراسم الجنازة بدأت في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الاثنين 21 أبريل 2014. وما جرى كان احتفاء بحياته الحافلة وذكراه الطيبة. وجرت مراسم وطقوس البهجة والاحتفاء في قصر الفنون الجميلة بمكسيكو سيتي (عاصمة المكسيك) بحضور الرئيسين المكسيكي والكولومبي وأيضا آلاف ممن عاشوا وعشقوا كتاباته ورواياته، وحسب ما شاهدت وسمعت وقرأت من الصعب بل من المستحيل تسمية ما جرى بأنه كان جنازة وتلقي عزاء وكلمات تأبين اذ كانت المشاهد مبهجة وصاخبة بالحياة والبشر وأيضا حافلة بالموسيقى والأغاني وقراءات من أعماله داخل وخارج القاعة، كما تم عزف للألحان المفضلة لديه سواء كانت شعبية أم كلاسيكية وانطلقت الصرخات مثل « عاش جابو» واحتد التصفيق أحيانا .. وحسب ما نقل من بعض الحضور فان الكاتب العظيم جابرييل جارسيا ماركيز أو «جابو» كما يطلقون عليه لو كان قد شاهد ما شاهدناه ليس فقط كان سيدهشه ويبهره المشهد الحي الصاخب بل غالبا كان سيعلن عن رغبته العارمة في أن يكون بينهم ومعهم مشاركا ومستمتعا ومأخوذا بما تم فيما أسموه .. جنازته. ماركيز توفي يوم 17 أبريل الحالى وعمره 87 عاما وآخر طلة له على عشاقه وأمام الكاميرات كان يوم 6 مارس الماضي يوم عيد ميلاده أمام منزله بمكسيكو سيتي وفي عروة جاكتته الوردة الصفراء. تلك كانت زهرته المفضلة وذلك كان لونه المفضل الذي طغى على مراسم الاحتفاء به وبحياته. الورود الصفراء والفراشات الورقية الصفراء... كانت في كل مكان! كم من المرات قرأنا وسمعنا عن الفراشات الصفراء في حديقة جدة ماركيز وهو الطفل الصغير يطاردها جريا، وأحيانا بالطبع يشعر بأن الفراشات هي التي تطارده ومن هنا تكرر المشهد في ابداعه العظيم، لذلك كان من الحكمة والوفاء أيضا أن تظهر الفراشات الصفراء حتى لو كانت ورقية في جنازته. وكان من الطبيعي عندما تساقطت وتطايرت .. تطلعت العيون وابتهجت النفوس. والبعض من الحضور أطلق الصيحات والبعض الآخر اكتفى بالصمت والدموع بعينيه. فالفراشة مهما كان حجمها أو لونها كانت ومازالت في قاموسنا الشعوري والنفسي هى الانطلاقة والخفة والجمال والتوق الى الضوء والاحتراق به وأيضا التحول من يرقة تزحف الى فراشة تحلق وتطير في دوائر صغيرة أو كبيرة ثم ماذا أيضا عن رعشة أجنحة لدى الفراشة وتلاقح الزهور وتدفق المشاعر وحرية التعبير والحركة .. وما يقال دائما عن أثر الفراشة. ذاك الذي قال محمود درويش عنه «أثر الفراشة لا يرى .. أثر الفراشة لا يزول». ويمكن القول أن عظمة ماركيز تكمن وتنعكس في أن تحليقه بالخيال وابهاره وانبهاره ب«سحر الواقع» أو «الواقع السحري» أو «الواقعية السحرية» تعدى الحدود واللغات والثقافات. «مائة عام من العزلة» روايته الشهيرة تم بيع أكثر من 50 مليون نسخة منها في ترجمات تصل عددها الى نحو 30 لغة. وهي بالمناسبة الرواية التي رفض ماركيز اعطاء حق تحويلها الى فيلم. وكم من المرات سمعت العبارة اياها: «حسنا فعل وقرر لأن لكل قارئ للرواية فيلمه الخاص به لا يريد أن يشوش عليها أي فيلم آخر ». وفي أمريكا عكست صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية الكبرى مدى اهتمامها بمكانة وأهمية ماركيز في المشهد الانساني بوجه عام. اذ في اليوم التالي لوفاته صدرت «نيويورك تايمز» وعلى صدر صفحتها الأولى صورة لماركيز ونظرته الثاقبة. أحد كبار مسئولي الصحيفة كشف فيما بعد بأن في اجتماع التحرير الساعة الرابعة بعد ظهر يوم وفاة ماركيز حسم الأمر بأن ماركيز سيكون في صدارة الصفحة الأولى. ومعه مقالتان مطولتان يحتفيان بالأديب الكبير وارثه وأثره وتأثيره. ثم جاءت الصحيفة نفسها وفي اليوم التالي لجنازته أو الحفل الاحتفائي لكى تنشر تقريرا كتبه اثنان من مراسليها من مكسيكو سيتي ليصفا لحظات الاحتفاء المبهج ومشاعر الحاضرين الفياضة وكيف أن العلبة السوداء الحاوية والحاملة لرماد جسده بعد أن دخلت بها الزوجة ميرسيدس والابنان رودريجو وجونزالو.. وبعد أن تم وضعها على المنضدة ضجت القاعة بالتصفيق لأكثر من دقيقة. وذكر التقرير أيضا وجود رئيسي البلدين( بلد النشأة كولومبيا وبلد الاستضافة أو المنفى الاختياري المكسيك) وبأنهما بعد القائهما لكلمتهما لم يغادرا المكان وظلا هناك الى انتهاء الاحتفاء بماركيز. كما ذكر في التقرير نفسه بما أن طوابير طويلة من مقدمى العزاء والتقدير كانوا متواجدين في المكان وربما خارج القاعة الا أنه تقرر أن يظل الاحتفاء ساريا لحين انتهاء كل من في الطابور من أدائه لواجب العزاء. ولم تعلن أسرته عقب هذه المراسم أين سيتم دفن رماده وان كانت دولة كولومبيا أعربت عن رغبتها في أن يكون ضمن أراضيها موضعا لدفن بعض من ذلك الرماد. ولا بد هنا من وقفة للتأمل.. لقد كان آباؤنا وأجدادنا دائما ينصحوننا «يمكن ألا تكون حريصا على حضور حفل عرس ولكن اياك أن تغيب عن جنازة». فمن يقف معك ويواسيك ويشد على يدك في عزاء عزيز أو عزيزة لديك تركتك وذهبت الى العالم الآخر غالبا ما سوف تتذكره وتفتكرها طوال حياتك.. «تعيش وتفتكر» وأن تدرك وتؤمن بأن غياب العزيز لا يعني فقدانك للغالي. والمهم لحظة الاحتفاء بالذكرى و بما تركه الفقيد لنا من بصمة لا تمحوها الأيام وتبقى «محفورة» على أحد جدران الذاكرة.. نزورها من حين لحين قبل أن يصيبنا النسيان أو يجتاحنا النكران.. كل هذا دار بخيالي وأنا أتابع تفاصيل الاحتفاء بموت ماركيز وبصمته وبهجته .. وما تركه لنا وما أخذناه منه. في يوم ما لم يتردد جارسيا ماركيز في أن يقول» ليس صحيحا أن المرء يتوقف عن مطاردة أحلامه لأن العمر قد تقدم به.. بل إن الشيخوخة تصيبه عندما يتوقف عن أن يحلم ويطارد أحلامه». ماركيز نبهنا كثيرا لسحر الواقع وبالتأكيد سنكتشفه أكثر فأكثر اذا دققنا النظرة وتأملنا اللحظة التي نعيشها الآن بكافة تفاصيلها. كما أنه هو نفسه ذكرنا بالحب الذي يولد ولا يموت أبدا و.. أن ذاكرة القلب (بعكس ذاكرة العقل) في امكانها أن تغفر وتتسامح وقد تضمد الجراح وتلملم النفس لتعاود السير من جديد. والأهم أنها أي «ذاكرة القلب» على امتداد الطريق وأيضا في نهاية المطاف تحافظ على وتحتفظ بما هو عشق وود وذكرى حلوة. ولهذا نحن نظل أحياء وتستمر حياتنا! ولعل أهم قيمة نقلها ماركيز لنا أو فلنقل تركها لنا لعلنا نتعلم حتى من جنازته أن ننظر دائما لحياتنا من جديد وبطريقة أكثر تأملا وتمعنا عن ذي قبل وأكثر التصاقا واحتضانا لها ولتفاصيلها الدقيقة.. وأن «نعيش لنتذكر» وأن «نتذكر لنعيش» وأن «نتذكر ما نريد أن نتذكره» سواء كان هذا في رواية أو في فيلم أو خلال «لقاء عابر» أو «جلسة مطولة» أو ضمن «دردشة» أو «فضفضة» أو كان بحضورنا ل «حفل عرس» أو «جنازة». وترى هل تغيرت رؤيتنا وفهمنا قلقنا وشعورنا تجاه الحياة أو الموت؟!.. أعتقد أن ماركيز كان يريد منا أن نتذكر هذا ونتعلم من هذا .. لكى تكون حياتنا أكثر سحرا ومتعة وقيمة وسعادة وبهجة.