ديوان صغير من الشعر ، في حجم كف اليد، أو يزيد قليلاً، أبدعه شاعر شاب ، يحمل في قلبه قدراً طيباً من الألفة تجاه عالمه ، الذي آثر أن ينشده على هذا النحو ، وآثر أن تغامر قصائده أحيانا، عابرة ذلك الفضاء،متأملا اياه ، ومحتشدا دوما بالظلال ، وحالات الغياب والرحيل ، وحصاد العزلة ، عند الضواحي البعيدة ، المتاخمة للصحراء، وحضور مقاطع من شمس محملة بحنين مؤجل ، في العادة لا يتحقق في أسر زمن يقضي فيه الغرقي مساءاتهم بعيدا عن النهر. ثماني قصائد نثرية ، تتقاطع ، وتتجاور ، محاولة الخروج من أسر القصيدة القديمة ، تؤسس حداثتها من خلال المعني في الرؤية ، وبناء شكلها، تفسح الضوء في الظلام ، وتفتح نافذة مشرعة على لحظة كاشفة ، تحاول الانفلات من ثبات قديم ، كاتبة نصها الخاص. عنون الشاعر الشاب ديوانه «بائع البهجة» . العنوان مفتتح لقصائد تمد أناملها ، وتتراسل مع هؤلاء الذين نشعر بهم في أحلامنا ، وهم في كل أحوالهم رفقة للمكان، وزمنهم معنا زمن وطن يعيش خياراته المستحيلة !! قتلة\ وماء عكر\خالطه الدم هكذا بدت\المدن التى أحببنا\ ولفظتنا\ ذات مساء عراة\ننشد أوطانا أخرى عالم من فرط صدقه ، ينبع من هناك ، من الألفة ، فيما يتلمس «عبدالحكيم صالح» ذلك العالم الذي يتسم بعزلة الكائن ، وتلك المساحة من الظلال ، والحيرة في القصائد ، كأنها الوجل الخفى لشيء مفتقد ، تفرض وجودها فى رؤى الشعر الذي يتبدى أحيانا في بعض القصائد ، محايدا ، وباحثا عن معنى. تسعى القصائد للقبض على كونها الصغير ، ذلك الكون الذى نراه يلوح أمامنا ليتشكل من هؤلاء البشر. أحب الشعر ذا الدلالة الغامضة . الذي نراه هناك مثل ضوء شاحب لكنك لا تستطيع أن تدرك ما الذى يسعي إليه. أتذكر أننى قرأت يوما بيتا من الشعر لكورتثار ... نسيت نفسي ، ولم يبق إلا رجع الكلمات بصداها الداخلي مثل رجع الجرس . كان البيت : أين يذهب الضباب وبقايا القهوة وتقاويم الزمن الماضي؟ في ديوان «بائع البهجة» لحظات مثل تلك. في قصيدة «الإنجيلية» يجسد الشاعر عالماً مختلطاً ، يتجاوز مراراتنا المحدقة ، بالمكان والوقت والبشر, باحثين عن سؤال ، وحشد من الألم : عن الذين غابوا، ومضوا ، لا نعرف هل سيعودون ؟! وعن نساء مهجورات، فيما يلوح منطفئا حلم الإنجيلية التي جاءت تتأبط ذراع المسيح ، ومقاطع من شمس تلك النسوة الجالسات على العتبات ، اللاتي يحببن حكي الحكايات ، وأيضا عن الأطفال الذين يحبون الله ، في انتظار أن يشرق وجهه بالنور ، وهم يتأملون ملامح آبائهم في شرفات البيوت ، ذات الظلال المهتزة ، هؤلاء الآباء الموغلين في العمر: الانجيلية\ التي ألقت بشباكها\ علي الكلمات وانتظرت\ الخبز والنبيذ\الإنجيلية التي غادرتها السنون\ واحدة فواحدة باغتتني هذا المساء\ فرحة وقد تأبطت ذراع المسيح يتمرد الشاعر في أكثر قصائده علي ما يراه ، ويمضي وحيدا ، فيما لا يقدر الشيطان أن يقول لا ، حتى ولا يملك رفاهية الرفض . ثمة حرية بلا دليل ، وسماء غير واقية ، تبدو علي البعد مثل قدر هابط ، وبين امتداد البصر وسقوط السماء من علوها البهيج ، يصنع الشاعر قصائده : السماء\ التي رتقتها بيديه\ تساقطنا عنها واحدا تلو آخر\ وغلقت ينتقل الشاعر بخبرة الملاحظة بين عوالم شعره ، ولأن الحيرة اول الحصاد ، واللقية التي لاقته في البدء ، فكان القلق والرحيل والجروح ذات الحواف الخشبية والغوايات حيث نشدان الخلود ، والطوفان بين ورد النهر والجثث التي تبدو علي البعد عبر الضفة المقابلة ، وحكم القدر الذي كان قاسياً ، والمساء الأخير لمدينة تغرق في ظلامها . ثمة قتيل أسفل الطاولة تقام فوق رأسه المآدب والاحتفالات فيما يجتاح الحفل صرخة ، تسود وجه الليلة ، ممزقة التواطؤ بين الدم والجلاد في اللحظة التي كانوا ينصبون المشانق علي شرفات القصر ويبتهجون!! يختتم «عبدالحكيم صالح» ديوانه بقصيدة «بائع البهجة» ، ململما فيها أحوال الوطن في سنينه الأخيرة وينبع الشعر مما يجري في المكان ، ويمتطي الشاعر جواد الثورة جامحاً ، فيشاهد عبر رمحه في الأنحاء وتأمله مجريات الأمور ، أن القصيدة آخر أمرها «تشبه الجرح الذي لا ينسي» وينبع الشعر من الذاكرة أحيانا ، ومن الواقع الذي عشناه يوما ومضي ، والتقينا فيه بذلك الريفي الذي يسكن الميدان ، وهؤلاء الذين داسوا الجثث الرطبة ، والوجوه التي غادرت حيث السماء البعيدة ، والأصدقاء الفقراء الذين خلت منهم المقاهي ، وكانوا حالمين ، إلا أنهم بسبب تغير الأحوال ثانية أضحوا قطاعا للطرق ، يقفون علي الجسر ، يستوقفون المارة والعربات ، في الشوارع المثقلة بالغاز ، وأحذية الجند ، والرصاصات ، وفي الأخير ينشد الشاعر الشاب الجميل : كعادته\ وفي مكانه الأليف\ كان الطفل النحيل\ بائع البهجة ممدداً وفي الجوار كنا نتراص\ منتظرين ان ينضج الحبات\ حبات البطاطا وحده\ ذلك الطفل\ ذلك النحيل\ كان يعلم أننا لن ننالها أبدا