بعد سنوات من الترهل الإداري، وضعف الإرادة، قررت الدولة أن تفرض هيبتها، فأزالت العديد من الأبراج المخالفة بمحيط المحكمة الدستورية العليا بالمعادي، وقرر وزراء الحكومة الخروج من المنطقة المركزية ، وتوسيع نطاق المواجهة مع مخالفات البناء على الأراضى الزراعية بالمحافظات، بتكليف من المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء ، الذى كلف وزارات الزراعة، والداخلية، والتنمية المحلية، والدفاع، باتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة ظاهرة التعدى على الأراضى الزراعية فى الوادى والدلتا ، والتصدى بصورة حاسمة للتعديات الجديدة فور حدوثها سواء بالبناء أو التبوير قبل تفاقمها، باعتبارها قضية أمن قومى وتهدد غذاء المصريين فى حالة استمرارها. على الفور، انطلق الدكتور أيمن فريد ابوحديد وزير الزراعة والدكتور محمد عبد المطلب وزير الرى والموارد المائية، فى جولات ميدانية بالمحافظات، لتفقد الاوضاع الأمنية، ومتابعة وقف حالات التعدى على الأراضى الزراعية ونهر النيل حيث قام وزير الزراعة أيمن فريد أبو حديد بجولة ميدانية فى محافظة القليوبية، معلناً خلالها أن حملات الوزارة نجحت فى تخفيض التعديات بنسبة 50 % خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وأن الأيام القادمة سوف تشهد الإعلان عن تعديلات قانونية جديدة لتغليظ عقوبة التعدى على الأراضى الزراعية بالحبس و الغرامة، وان العقوبات ستطبق بأثر رجعى على كل الحالات التى لم تقم بتسوية أوضاعها مع الدولة ، مؤكداً فى الوقت نفسه ان محافظاتالمنوفية، والبحيرة، والغربية، والقليوبية أعلى المحافظات فى التعديات ، أما محافظات شمال سيناء والوادى الجديد ومرسى مطروح والسويس فهى الاقل فى التعديات على الأراضى الزراعية، فيما قام الدكتور محمد عبد المطلب وزير الرى بجولة فى محافظة المنوفية، لازالة التعديات على النيل والمجارى المائية، فأحال المخالفات للتحقيق، معلناً ازالة 1300 حالة تعد خلال الشهور الثلاثة الماضية. مخالفات بالجملة هنا يكشف الدكتورمهندس حسن علام الرئيس السابق للجهاز الفنى للتفتيش على أعمال البناء أن إجمالى العقارات المقامة دون ترخيص نحو317 الفا و948 عقارا صدر لها356 الفا و507 قرارات ازالة معتمدة من السادة المحافظين ولم يتم تنفيذ أى منها, أما نسبة العقارات المقامة دون ترخيص قبل يناير2011 فتمثل32.50% من اجمالى العقارات, بينما تمثل نسبة العقارات المقامة بدون ترخيص بعد يناير2011 نحو67.50% من اجمالى العقارات, اما العقارات التى صدر لها تراخيص ولكن تمت مخالفتها فتبلغ25 الفا و277 عقارا صدر لها90 الف قرار بالإزالة, بينما بلغت نسبة العقارات بترخيص ولكن مخالفة قبل يناير2011 نحو 30.70% من اجمالى العقارات, بينما بلغت نسبة العقارات المقامة دون ترخيص بعد يناير2011 نحو69.30% من اجمالى العقارات, وجاءت محافظة الغربية فى مقدمة المحافظات التى تحتوى على عقارات مخالفة بمعدل40 الف عقار تليها الدقهلية36 الفا و329 عقارا, تم بناء معظمها على أراض زراعية, ثم المنيا34 الفا و203 عقارات, ثم الشرقية32 ألفا و795 عقار ثم الجيزة 32 الفا و495 عقارا, فيما جاءت محافظة الاسكندرية فى المرتبة التاسعة حيث بلغ عدد العقارات دون ترخيص بها نحو14 الفا و521 عقارا منها 3666 عقارا قبل يناير2011 و10 آلاف و855 عقارا بعد يناير2011 بنسبة زيادة تقدر بنحو300% وتعتبر محافظة بورسعيد هى أقل محافظة فى عدد العقارات غير المرخصة, التى بلغت نحو25 عقارا دون ترخيص, الأمر الذى يستوجب ضرورة التصدى لتلك الظاهرة الخطيرة لايقاف نزيف الاقتصاد القومي, ورفع العبء الثقيل الذى ألقته جرائم مخالفات البناء على مرافق الدولة, قبل أن تصل تلك الظاهرة لمرحلة تستعصى فيها على الحل. وقد تحركت مصر ضمن مؤشر استخراج التراخيص عالميا من المركز 165 على 181 دولة سنة 2009 عند بدء تطبيق القانون 119 لسنة 2008، ثم تراجعت الى المركز 155 عالميا سنة 2010 بعد عام من تطبيق القانون، ثم الى المركز 154 سنة 2011 ، ثم الى المركز 155 سنة 2012، بما يعنى ان تطبيق القانون بوضعه الحالى لم يؤثر على المؤشرات العالمية لاستخراج التراخيص، وهو ما أدى الى مزيد من الفساد . قصور رقابي يرجع السبب الرئيسى وراء إزدياد مخالفات المبانى بصورة مطردة بعد ثورة 25 يناير، والكلام للدكتور مهندس محمد عوض بحر أستاذ الهندسة الانشائية والأساسات بجامعة الأزهر- إلى الجهل بثقافة السكن فى ظل تفاقم الفقر، وتزايد مشكلة البحث عن مأوى دون النظر إلى الاعتبارات البيئية الأخرى من سكن صحى ملائم ، فنجد المبانى الشاهقة فى الحوارى والأزقة، ويزداد ذلك مع غياب الرقابة وغياب سلطة القانون فى إزالة مخالفات المبانى ، ويأتى فى المقام الأخير عدم وجود آليات الرقابة المسئولة على الادارات المحلية التى تعانى من قصور كبير، فى الكفاءة والادارة مع قصور آليات الردع للمفسدين الذين هم جزء لايتجزأ من المنظومة، يضاف إلى ذلك مركزية سبل العيش بالمدن الكبرى وعدم وجود خطط للتنمية لاستغلال الموارد البشرية خارج نطاق المدن الكبرى سواء كان فى الجنوب بالصعيد أو شرق البلاد بسيناء مع توفير المسكن الملائم الجاذب خارج حدود المدن مكتمل المرافق والخدمات المعاونة. أسباب متعددة وبشكل عام، يرى المستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة الأسبق- أن انتشار ظاهرة المبانى المخالفة فى مصر يقف وراءها العديد من العوامل ، من بينها أن مصر تعانى أزمة حادة فى الإسكان حكومى ،حيث نحتاج كل عام إلى نصف مليون وحدة سكنية، كما أننا نواجه مشكلة فى نصوص القانون الذى يسمح بالتصالح بدلاً من الهدم، ومن ثم يلجأ الكثيرون للمخالفة، ثم يستعدون لدفع الغرامة، التى فى العادة تمثل جزءاً يسيراً من الأموال التى يحصلون عليها نتيجة البناء المخالف، ولا شك أن التصالح يعنى تفشى الجريمة،الأمر الذى يستدعى الحاجة لاستصدار تعديل تشريعى على قانون البناء، بحيث يتم النص فيه على مصادرة المبنى المخالف أو نسبة من الوحدات السكنية لصالح الدولة تتولى التصرف فيها لصالح المواطنين المحتاجين والباحثين عن مأوى، وكذلك لابد من تشديد العقوبة على موظفى ومهندسى الأحياء المتقاعسين عن تنفيذ القانون أو الذين يثبت تواطؤهم بشكل أو بآخر من تحرير محاضر صورية للمخالفين، بحيث ينتهى دورهم عند تحرير المحاضر، ثم تواصل المخالفات انتشارها، وتعلو المبانى المخالفة، مشيراً إلى أن الانفلات الأمنى أعجز الشرطة عن القيام بدورها فى تنفيذ الأحكام الخاصة بالهدم والإزالة، الأمر الذى يستلزم إنشاء جهاز شرطى مركزى لجرائم المباني، حتى تكون مهمته ملاحقة المخالفات، والتحرك السشريع لمواجهتها. تفعيل القانون ووفقاً للقواعد القانونية- والكلام هنا للدكتور صلاح الدين فوزى رئيس قسم القانون العام بكلية الحقوق جامعة المنصورة- فإن أى بناء لابد أن يتم بترخيص مسبق ، وفى حالة المخالفة تكون الإزالة وجوبية، حيث يجب ردم المكان المعد للبناء إذا تم حفره دون ترخيص، وإذا دخلت المخالفة مرحلة الخرسانة المسلحة يعطى المخالف مهلة زمنية قصيرة للإزالة، وإذا لم يلتزم بذلك ، تتولى الجهات المسئولة عملية الإزالة على نفقة المخالف، وهذا فى العادة لا يحدث، فالشاهد أننا نجد مبانى مخالفة سواء كانت بدون ترخيص، أو حصلت على ترخيص بأدوار محددة، تعلو وترتفع لتصل إلى 15 طابقاً، كما أننا نجد مخالفات صارخة لاستخدامات المباني، حيث يجرى تحويلها- فى غياب الرقابة الفعالة للأحياء- من الغرض السكنى الى التجارى أو الصناعي، وفى بعض الأحيان يتم تحرير المخالفة بإسم أحد العمال، بحيث يصعب الاستدلال عليه، ولذلك يجب أن تكون المخالفة على العين« المبنى« وليس على شخص، بحيث يسهل التعامل معها بالقانون حال ثبوت المخالفة، كأن يتم مصادرتها ، ويتساءل: لماذا لا يتم التدخل وتطبيق القانون منذ بداية المخالفة أو عند بداية الإنشاء؟ إذ ليس من المعقول الانتظار لحين الانتهاء من بناء العديد من الأدوار ثم نبحث بعدها فى تطبيق القانون. وبشكل عام، فإن القوانين كثيرة، لكننا نحتاج إلى تفعيلها بحيث تقوم
أجهزة الإدارة المحلية بدورها فى ملاحقة المخالفات، كما يجب تعديل قانون الإدارة المحلية من ناحية شئون التوظيف، عبر قانون خاص يمكن أن نطلق عليه قانون الوظيفة العامة المحلية متضمناً مزايا وشروط للعاملين فى هذا القطاع، من بينها الكفاءة، والنزاهة، وحسن السمعة، ومحاسبة الوظفين المتورطين فى مخالفات البناء، أو الذين يغضون الطرف عنها. سألناه: ما هى العقوبات التى تنتظر الموظفين المتقاعسين عن تطبيق القانون على مخالفات المباني؟ د. صلاح الدين فوزي: العقوبة تأديبية تبدأ بالإنذارأو الخصم من الراتب الشهرى ، وقد تكون العقوبة جنائية إذا ثبت تورط الموظف فى المخالفة، أو تواطأ مع صاحب المبنى، أو شارك فى التغطية على الجريمة، ولكن هذه التهم من الصعب إثباتها، ولذلك يجب تعديل القانون بحيث يتضمن إجراءات عقابية رادعة للموظفين المخالفين والمتقاعسين بالأحياء. ترسانة تشريعية المشكلة ليست فى القوانين، كما يقول الدكتور أحمد سعد أستاذ القانون المدنى بكلية الحقوق جامعة بنى سويف- ، فمصر لديها قوانين بناء لحماية البيئة من التلوث العمرانى بدءاً من عام 1820، وهذه الترسانه المتعاقبة من القوانين كان يمكن أن تتصدى لكافة مخالفات البناء لو تم تطبيقها بشكل حاسم وصارم، ومن ثم فإن المشكلة لا تمكن فى القوانين بل تكمن فى تطبيقها. ثم تأتى المشكلة الأخرى ، والتى لا تقل أهمية فى مخالفات المباني، وترتبط بالجهاز الإدارى للدولة، .. والدولة - كما يقول الدكتور أحمد سعد - هى مجموعة من المؤسسات التى تدار من خلال جهاز إداري، وهذا الجهاز هو سبب البلاء، حيث يسهم فى تنامى مخالفات البناء، فضلاً عن الإهمال فى تحصيل الغرامات المتعلقة بالمبانى للخزينة العامة للدولة، ومن ثم يجب إستعادة هيبة الدولة، والتصدى للمخالفات بكل حسم وحزم، فليس من المعقول أن تتقلص الرقعة الزراعية إلى نحو 3 ملايين فدان حالياً ، كما ينبغى محاكمة كل من يثبت تواطؤه أو تورطه فى مخالفات البناء أياً كان موقعة، حتى تصبح الإدارات الهندسية وسيلة فعالة للتصدى لمخالفات البناء، بدلا من المساهمة فى انتشارها. المواجهة تبدأ من هنا أما المواجهة، فتستلزم كما يقول الدكتور حسن علام اتخاذ العديد من الإجراءات وتشمل ضرورة تعديل قانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008 والقوانين ذات الصلة وتجهيزها للعرض على المجلس التشريعى القادم لاقرارها ، وتسهيل الاجراءات الفعلية على الطبيعة والتى يحتك بها المواطن عند التطبيق الفعلى للقانون، وإعطاء مسئولية محددة لمهندسى التنظيم مع محاسبتهم عليها، والتفريق بين المخالف ومن يبنى بدون ترخيص من حيث الاجراءات والعقوبات، والتنسيق بين جميع قطاعات الدولة للبدء فى تنفيذ قرارات الازالة للمبانى التى تم تشييدها بدون ترخيص على أراضى الدولة، حتى تصل رسالة لكل المخالفين بأن الدولة تستعيد قوتها وقبضتها فلا داعى للمواجهة معها، لأن المواجهة تعنى الخسارة للمخالف، والعمل على جعل المخالفة غير مجدية للمخالف حتى لا يتمكن من الانتفاع بمخالفته مما يمكنه من الاستمرار فى المخالفة، ومن ذلك على سبيل المثال: عدم ادخال المرافق للعقارات المبنية بدون ترخيص او المخالفة ومعاقبة من يسمح بذلك ومن يخالفه، وعدم الاعتراف بأى اجراءات يتم عملها سواء بالشهر العقارى او البنوك على الوحدات المخالفة، وإجراء تعديل تشريعى لجعل البناء بدون ترخيص جريمة غسيل اموال ، وكذلك سد الثغرات الادارية والاجرائية والقانونية بين الجهات الادارية (الاحياء والادارات المحلية) والشرطة والنيابة والقضاء حتى ينال المخالف العقاب الذى يزجره عن الاستمرار فى المخالفة ومنها: ضرورة تفعيل دور التفتيش القضائى على النيابات فى قضايا البناء بدون ترخيص، وكذلك تفعيل دور هيئة قضايا الدولة فى دراسة احكام البراءة لقضايا البناء بدوت ترخيص والاستئناف عليها ومتابعتها، وانشاء شرطة، ونيابة، ومحاكم للبلدية يكون مقرها الحى او مجلس المدينة ، على غرار ما كان موجودا فى السبيعنات من القرن الماضى، وتفعيل دور الاجهزة الرقابية المتخصصة فى مجال البناء لمحاصرة ظاهرة الفساد فى الاجهزة الادارية والتعاون مع باقى الاجهزة الرقابية، والتطوير والتعديل المستمر للمحاور السابقة بما يضمن استراتيجية ديناميكية المواجهة معتمدة على التواصل مع الوحدات الادارية وتتبع حيثيات احكام البراءة فى المخالفات ودراستها وللوصول الى الثغرات القانونية والادارية بها. [email protected]