لم تسع معظم الأنشطة التي قامت بها المؤسساتُ الثقافية الرسمية إلى فائدة المثقفين, أو جمهور المحتاجين الحقيقيين إلى المعرفة, بل سعت إلى مصلحة المؤسسة والقائمين عليها على حساب الاثنين, فتحولت وزارة الثقافة ومجالسها في نظر المسئولين, إلى البيئة الثقافية بكاملها, مثلما تحولت من قبلها الحكومة إلى الدولة! مورست على المثقف المصري أشكال مختلفة من العنف الرمزي, على نحو وضع المثقف المصري بين مطرقة الأكاديمي الموظف وسندان الظروف الاقتصادية الصعبة التي عاني منها المثقف على نحو خاص, في ظل بقاء النظام الثقافي السابق, دون أدنى تغيير حقيقي في هياكله ورؤيته وقياداته, حتى بعد ثورتين, وبعد تغيير الدستور مرتين! فقد أهدرت الأنظمة المتعاقبة حق الكاتب على الدولة في معاش يساويه بأقل الفئات أجرًا, فأعلى معاش لكاتب في "اتحاد الكتاب" على سبيل المثال لا يجاوز " مئتي جنيه شهريًا " أي ما يعادل سدس الحد الأدنى للأجور في الدولة! كما أُهدِرَ حقُّ الكاتب في العلاج, فكلّ يوم يسقط زميل لنا, شاعر أو روائي أومسرحي, شاب أو كهل أو شيخ, ضحية غياب نظام صحي يحميه من المرض, ويقيه شر العوز إن احتاج إلى العلاج, وقد أرسل اتحاد الكتاب رسالة إلى وزير الدفاع منذ عدة أشهر طالبنا فيها بأن يعامل أعضاء الاتحاد معاملة أعضاء القوات المسلحة, فهم حملة سلاح, ونحن حملة قلم, وذلك في ظل أن تكلفة علاج المثقفين أو الكتاب بسبب عددهم, لن تكون إلا تكلفة ضئيلة. كما طالبنا عددًا من المسئولين أيضا بأنه إن لم يكن في استطاعت الدولة دعم نقابة اتحاد الكتاب, والنقابات الثقافية المماثلة كنقابة التشكيليين ونقابة المهن التمثيلية ماليًّا فيمكنها ذلك بمنح قطع أراض مميزة في المدن الجديدة لتستثمرها كل نقابة فكرية أو إبداعية بصفتها حلاً ماديًّا غير تقليدي, تستطيع من خلاله أن ترفع معاش أعضاء هذه النقابات إلى الحد الأدني للأجور, وتقيم مشروع علاج مناسب لهم, فعلاج كتاب مصر ومفكريها يقوم على منحة من حاكم عربي –وله كل الشكر والتقدير- دون أي دعم من حكومات مصر المتعاقبة, وكأن الدولة تصر على إهانة حاملي ضميرها الثقافي والفكري وإهمالهم. ولا يمكن أن ينكر منصف دور النقابات الثقافية, ومنها اتحاد الكتاب, في معارضة الفساد في فترة نظام مبارك, وفي أثناء ثورة يناير بخاصة, بدءًا من تأييد الثورة في بياننا يوم 26 يناير الداعم لكل مطالبها, واشتراكنا في كل مراحلها, كما كان اتحاد الكتاب أول نقابة تسحب الثقة من نظام د. مرسي, وتدعو إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة, وتعديل الدستور, وذلك في جمعيتها غير العادية في 21 يونيو 2013, وهو النقابة التي قدمت اقتراحها الذي أُخِذَ به في تشكيل لجنة إعداد الدستور التي قدمنا فيها ما يزيد على (25) مادة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالثقافة, فضلاً عن فصل كامل باسم (المقومات الثقافية) أُضيف إلى باب المقومات, في سابقة قد تكون الأولى في تاريخ الدساتير بعامة. وكانت أهم مواد الدستور الثقافية التي اقترحناها تلك المواد التي نصت على أن الثقافة حق لكل مواطن! وأن محو الأمية التعليمية والرقمية التزام على الدولة, فضلأً عن التزامها بدعم الترجمة من العربية وإليها, والمحافظة على اللغة العربية, وكلها مواد ترتبط مباشرة "بحقوق الثقافة", أما المادتان الخاصتان "بحرية الفكر والإبداع, وحظر الحبس في قضايا النشر", فكانتا أهم ما جاء في الدستور عن "حقوق المثقف". وبعد الحكم على الروائي كرم صابر بالسجن خمس سنوات بسبب رواية كتبها! قرر رئيس الوزراء منع عرض فيلم (حلاوة روح)! إلى حين تقديم الرقابة على المصنفات الفنية تقريرًا عن مواءمة مشاهد العمل مع قيم المجتمع! ربما كان هذا السياق مقبولاً في ظل القوانين القديمة التي حاصرت حرية الفكر والتعبير, وربما تفهمنا حدوث ذلك من وزير متسرع لم يقرأ الدستور مثلاً, ولا يعرف إلزاماته, ولكن أن يأتي هذا القرار من رئيس وزراء أقسم على احترام الدستور والقانون فهذا ما يحتاج إلى وقفة.. برر رئيس الوزراء قرار المنع -وكما ذكرت أكثر من صحيفة مصرية- بأنه "أقسم أن يرعى مصالح الشعب فى (...) كل القضايا", وأنه لا يمكنه ترك ظاهرة اجتماعية تشجع على الانحراف, وهذا التزام بديع, بناه محلب على القسم, متناسيًّا أن القسم نفسه يلزمه قبل كلّ هذا باحترام الدستور, الذي نص على نحو قطعي على حرية المبدع, في المادة (65) منه, وأن "حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبيرعن رأيه بالقول، أو الكتابة، أو "التصوير"، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر", وهي حرية غير مقيدة في النص, وهذا ما أكدته المادة (67) وهي تنص على أن "حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة (...) ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى". أما ما نسبته الصحافة إلى رئيس الوزراء وهو يعلن أن أعلى قمة السلطة فى مصر (؟) تتبنى الدعوة إلى الوقوف ضد "العشوائيات الفنية", وثقافة الباعة الجائلين التى زحفت على الأعمال الفنية فى التليفزيون أو السينما, وضرورة التفرقة بين الفن والانحراف. وهو كلام يمكن أن يكون مقبولاً بشروط ثلاثة؛ أن نحدد بدقة من يملك الحق في إصدار هذا الحكم الفاصل بين الفن والانحراف؟ وأن يتحقق ذلك من خلال قانون لا يتعارض مع أحكام الدستور الجديد, وأن يصدر في صيغة حكم بات ونهائي, مر بدرجات التقاضي كلها, وليس بقرار وزير أو غيره. لقد كنت -وما زلت- ممن يرون أن مجتمعًا عمره سبعة آلاف سنة, هو مجتمع راشد, لا يشكل مشهد في فيلم, أو آلاف الأفلام غيره خطرًا على أمنه الثقافي, وأنه مجتمع لا يحتاج إلي أية رقابة, لأنه رقيب على نفسه. بل إن مجمل ما تمنعه الرقابة في مصر, في عصر "الانترنت", والسماوات المفتوحة! لا يجاوز حيزًا ضئيلاً مما يستطيع أي مواطن في أفقر قرانا الاطلاع عليه, بضربة زر واحدة علي حاسوبه الشخصي, أو عبر الشاشة المرئية, الأمر الذي يضع جدوي بقاء الرقابة نفسها في مجتمعنا موضع المساءلة. فهل يفيق صانعو السياسات؟ وهل يقرأ الوزراء ممن لم يقدموا تقارير ذممهم المالية وينشروها في الجريدة الرسمية حتى الآن, دستور مصر الجديد ليعرفوا التزاماتهم, ويدركوا حقوق المواطن وحرياته, دون أن يتورطوا في أخطاء فادحة كخطأ منع فيلم متهافت كهذا دون حكم قضائي يسبقه, وبمخالفة صريحة لمادتين من الدستور, وهل يظن هؤلاء أن الثقافة المصرية هشة إلى الحدِّ الذي يهدد فيه فيلم ضعيف على المستوى الفني تماسكها وبنيانها! وللكتابة بقية.. لمزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى