هل تخيلتْ الشتاء والصيف يقف كل منهما أمام الأخر لمعايرته والتفاخر عليه ؟!، أنا عشتُ تلك المتعة فى « مسامرة الضيف بمفاخرة الشتا والصيف»، والكتاب تحفة واللغة سهلة ميسورة والمؤلف قطعة سكر ولا يعيبه سوى اسمه الذى يصعب حفظه «الشيخ أبى بكر بن محمد عارف خوقير 1316 هجرية». والقصة بدأت من مكتبة إليكترونية تضم مئات المجلدات ومن بينها لمحتُ اسم هذا الكتاب قليل الصفحات عظيم المتعة ، فالمؤلف العبقرى يقول إنه فى إحدى ليالى الصيف لم يحتمل حرارة الجو التى جعلت جسدة لزجاً وملتهبا وأطارت النوم من عينيه فتمنى أن يأتى فصل الشتاء ، وانشغل بالفكرة وتوقد خياله فنهض وقرر أن يكتب قصيدة مديح فى الشتاء:«نعمّ الشتاء وحبذا زمن الهنا والراحة ..طاب العناق به إذا دار الحبيب براحتى»، وبينما هو منسجم تماماً ويكاد ينعم بذكريات الهواء تلفح وجهه إذ طرق باب البيت ضيف غاضب : (جاءنى طيف خيال فى صورة أسد مختال وقال : إنى أنا الحر والقيظ ، تضجرون منى وتصيحون من حراراتى وانتم تجدون اللذة الرائقة إذا قابلتمونى بالماء والثياب الرقيقة ، وتفسحتم فى الرياض البديعة». إنه الصيف الذى تألم كثيراً وجاء يلقن المؤلف درساً قاسياً ، ويعدد له مصائب الشتاء الذى يتمناه وذكريات ( التكتة تحت البطانية ): «ستذكرون أفضالى جيدا إذا جاءكم البرد بجنوده وصعق عليكم الصواعق والرعد ،وكلفكم ما لا طاقة لكم به من كثرة الطعام والملابس العظام ،واذكروا إذ قام أحدكم إلى شربة ماء فلا يكاد يسيغه ولا يتجرعه»!
ولم يكتف الصيف بتوبيخ المؤلف عند هذا الحد ، بل أصر قبل أن يمضى أن يُذكّره بقول الشاعر : «توقّ من الشتاء أى اتق شره ولا تخاطر بنفسك قائلا إنى حديد ،فرضنا إن جسمك من حديد .. فهل يقوى على البرد الحديد ؟!»
وظن المؤلف أن الضيف انصرف ، فأخذ نفساً عميقاً كى تهدأ روحه، وفجأة ،وكما يفعل الأشرار فى الدراما ، عاد الصيف !وضرب الباب بقدمه ونظر فى عينى الرجل وقال ساخراً :( اصمت يا أبا بكر ، وتذكر قول شاعر :جاء الشتاء سحق الوجوه ببرده.. أبدى الزكام بأنفهم ،أعشى العيون برمده ،رعب القلوب برعده ،جلب الغموم بغيمه ).
أنهى الصيف كلامه وقبل أن ينصرف هذه المرة حدث ما أشعل الموقف وألهبّ الخيال ، فقد جاء «الشتاء» من الخلف ضاحكاً ، فانخلع قلب المؤلف وقال مفزوعاً:أعوذ بالله ، فردّ الشتاء: أعوذ برب المثانى من كل ظالم و حسود لا يقدر شانى وجاهل لا يعرف مكانتى» وبدا الشتاء واثقاً وهو يتعجب من الصيف الذى صدّق نفسه وظن أنه الأفضل وتطاول عليه !، وذكر له قول الشاعر : «إذا ما خلا الجبان بأرض ..حاول الطعن وحده والنزالا»، ثم رفع حاجبه متعالياً ومستهزءاً وألقى قنبلة مدوية زلزلتْ الأرض وألزمت الجميع الصمت من هول وقعها: يكفيك ذما وهجاء أنك معدود من جملة النساء ،وكما قالت العرب الشتاء ذكر والصيف أنثى ،!، وهنا انتفض «الصيف» واحتقن وجهه غلاً وغبظاً وغضباً:«انظروا أيها الرجال إلى هذا المُعجب المُختال والجهول الضال ، يا هذا مشيراً إلى الشتاء ليلك طويل ،وعلى القلوب ثقيل ،يمل منه الصحيح ،ويضجر منه العليل ،ضاعف الوجد على المحبين وطالما خاطبوه وهو لا يجيب ،لا يرثى للنحيب كأنه عاجز ضلّ الطريق وسكران لا يفيق».
وهنا لجأ الشتاء إلى جلسة البيت وأُنس الحبيب مع روائح المحشى والمشوى فى عز البرد وتنهد قائلا:«أنا دفء البيوت وساعات الصفاء ، وصرخ: إلى متى تموه الزيف وتُقبح الحُسن بكلام مستهجن ،أمّا طول ليلى فهو من فضلى ،كيف لا ؟!وقد جعله الله سكنا ولباسا وجعل فيه أُنسا وإيناسا بالأليف والسكن والحبيب ،وهو وقت التهجد والقيام والمناجاه والتعبد ،قال الإمام ابن حنبل: لولا الليل لما أحببت البقاء فى الدنيا ،وهو يطول على الكئيب والمهجور ومن فارقه الحبيب ويقصر على المسرور السعيد الراضى القانع « ، وتمتد المباراة الكلامية بين الأثنين فى خفة ظل وتدفق لغوى مبهر ، حتى تصل الأمور إلى الغمز واللمز والمقارعة: الناس يشحذون الهواء ب «مرواح» مصنوعة من «سعف النخيل» هكذا قال الشتاء للصيف ، فوجدها الأخير فرصة للتغزل فى «المراوح» الرقيقة اللطيفة التى لا يعرف مقامها ويقدر قيمتها إلا الجميلات ويستشهد بقول «مروحة»صغيرة على لسان أحد الشعراء : أنا فى الكف لطيفة ..مسكنى قصر الخليفة .. أنا لا أصلح إلا لظريف أو ظريفة»، ثم اعتدل فى جلسته ونظر بغرور للشتاء وقال :« ألم تسمع قول الأصمعى عن ذلك الإعرابى خفيف الظل الذى حفر حفرة فى أول الشتاء وعندما سألوه : لماذا ؟ ، أجابهم ساخراً :
أيا رب هذا البرد أصبح كالحا ..وأنت بصير عالم ما تعلم
لئن كنت يوما فى جهنم مُدخلى ..ففى مثل هذا اليوم طابت جهنم
ورغم انحياز المؤلف للصيف ربما استجداءً لنسمة هواء تعيد إليه النوم الذى طار وتُرطب الجسد الملتهب ،أو لطبيعته الصحراوية التى تختلف فى درجة حبها الليل والنهار عن طبيعة أبناء المدن إلا أنك لا تستطيع إلا أن تنحنى إعجاباً بالمؤلف العبقرى اللطيف واسع الخيال الذى أثار ضجة فى عصره بهذا الكتاب الصغير ونال إعجاب «الجاحظ» لدرجة أن صاحب «البخلاء» قرر أن يضع مؤلفاً يُكمل به الاحتفاء بفصول السنة ويسير على نهج «مسامرة الضيف بمفاخرة الشتا والصيف» «فمكث غير بعيد وعاد ب «سلوة الحريف بمناظرة الربيع والخريف» معترفاً بفضل صاحب « مسامرات الضيف الشيخ أبى بكر بن محمد عارف خوقير صاحب الدم الخفيف والاسم الثقيل رحمه الله