فى يناير الماضى تقدمت غرفة الصناعات المعدنية بشكوى لوزارة الصناعة والتجارة تعلن فيها تضرر 12 شركة منتجة لحديد التسليح فى مصر من أسعار الحديد المستورد، وتطلب فرض رسوم حماية مؤقتة على واردات الحديد. و شهدت الأسابيع القليلة الماضية تواتر التصريحات من ممثلى تلك الشركات عن المنافسة غير العادلة التى تلقاها فى السوق المحلية بسبب الحديد المستورد، فى الوقت الذى تستعد فيه لمواجهة الارتفاع فى تكاليف انتاجها نتيجة التخفيض المتوقع فى دعم الطاقة، ناهيك عن الارتفاعات فى أجور العمال. والواقع أنه منذ بدأت أولى خطوات تخفيض دعم الطاقة منذ أكثر من عامين وشركات حديد التسليح لا تكف عن الحديث عن التهديدات التى تحيط بالصناعة الوطنية والتى تنذر بغلق المصانع وتشريد العمالة، والضرورة الملحة لحماية تلك الصناعة. وفى تصورنا أن هذا جميعه حق يراد به باطل. الأمر أن شركات حديد التسليح ترفض التنازل عن مليم واحد من أرباحها الاحتكارية التى تحققها من بيع انتاجها فى السوق المحلية بأعلى من الأسعار العالمية، والتى تتعامل بها عند تصدير منتجاتها للخارج. فدعم الطاقة الذى تحصل عليه تلك الشركات من الموازنة العامة يئول فى النهاية إلى المشترى الأجنبى فى الخارج، وليس إلى المشترى المصرى ، وينصرف أثر هذا الدعم إلى خفض تكاليف البناء لمواطنى الدول المستوردة فى الخارج وليس للمواطن المصرى الذى يعانى من ارتفاع تكاليف البناء، ويعجز عن مواجهة الارتفاعات الجنونية فى أسعار وإيجارات المساكن. الجانب الآخر للصورة هو أن هناك توقعات باتجاه الأسعار العالمية لحديد التسليح إلى الانخفاض خلال الفترة المقبلة، وقد انخفض بالفعل متوسط سعر الطن فى السوق العالمية من 590 دولارا فى يناير 2014 إلى 585 دولارا فى 8 ابريل 2014. هذا السعر (والذى يفترض أن الشركات العاملة فى مصر تدور حوله عند تحديد أسعار صادراتها للخارج) يعادل نحو 5000 جنيه فى حين أن متوسط سعر البيع للمشترى المصرى يتراوح بين 5300 جنيه و 5700 جنيه.. الاحتكارات عالية الصوت تعوض الانخفاض فى هامش ربحها فى الأسواق الخارجية من هوامش الربح المرتفعة فى السوق المحلية، فى ظل أسعار طاقة مدعمة وتكلفة عمالة منخفضة غير قابلة للمقارنة بأى مستوى للأجور فى الشركات المنافسة بالخارج. واللافت أن تلك الاحتكارات تبرر أسعارها المرتفعة بارتفاع أسعار البليت عالميا بسبب أزمة القرم (وهو ارتفاع لم يتجاوز خمسة دولارات فى حقيقة الأمر) وبارتفاع سعر الدولار فى مصر، مع أن بيانات البنك المركزى تؤكد تراجع واستقرار سعر الدولار خلال الفترة الأخيرة! والواقع أن الموقف الحالى لشركات حديد التسليح وشكوى غرفة الصناعات المعدنية باتحاد الصناعات سبق أن حدثت بحذافيرها فى سبتمبر 2012، ونجحت ضغوط تلك الشركات فى استصدار قرار من وزير الصناعة فى نوفمبر 2012 بفرض رسم وقاية مؤقت قدره 299 جنيها للطن على واردات حديد التسليح وذلك لمدة 200 يوم ولحين دراسة جهاز مكافحة الإغراق للشكوي. ذلك القرار سمح للشركات بالانفراد بالسوق المحلية وكان إيذانا لها بالرفع المستمر للأسعار. المفاجأة أنه منذ بضعة أشهر، وبالتحديد فى نوفمبر 2013 أعلن وزير الصناعة أن جهاز مكافحة الإغراق قد أنهى إجراءات التحقيق فى تلك الشكوي، وتوصلت النتائج إلى عدم وجود علاقة سببية بين الزيادة فى الواردات والتهديد بالضرر على الصناعة المحلية. وبناء على ذلك أصدر وزير الصناعة قرارا بوقف تطبيق رسوم الحماية السابق فرضها ورد قيمتها لعدم صحة أسباب تطبيقها. قراءة الأحداث التى سبقت إلغاء الرسوم والتالية للإلغاء تمثل أهمية خاصة لفهم ما يجرى اليوم. فقد جاء قرار الإلغاء عقب رفع مستمر ومتصاعد لسعر حديد التسليح من جانب الشركات المنتجة ليبلغ سعر الطن قبيل إصدار القرار نحو 6000 جنيه مصري، وليعلن ممثلو شعبة مواد البناء والتشييد بغرفة التجارة بالقاهرة أن سبب ارتفاع السعر هو تعمد شركات حديد التسليح تخفيض حجم انتاجها و«تعطيش السوق». بمجرد إلغاء رسوم الحماية اضطرت الشركات إلى تخفيض الأسعار وتراجعت خلال أيام بنحو 600 جنيه للطن. اليوم تمارس الاحتكارات عالية الصوت نفس اللعبة، ومع نفس الوزير. الفرصة للإفلات بهوامش ربح ضخمة تبدو مغرية فى ظل التوسع المتوقع والمعلن عنه من جانب الدولة فى مشروعات الإسكان، والزيادة المتوقعة فى الطلب على مواد البناء، وهى فرصة تتطلب التأكد من الانفراد بالسوق وبإمكان الرفع المستمر للأسعار ونقل أى أعباء محتملة لخفض دعم الطاقة إلى المشترى المحلي. الموضوع باختصار أنه يتعين عدم الخضوع لابتزاز الاحتكارات. فدعم الطاقة الذى تحصل عليه شركات حديد التسليح تموله الموازنة العامة التى تحصل على مواردها أساسا من الضرائب على قناة السويس وقطاع البترول والفوائض المحولة منهما، ومن البنك المركزى المصرى والبنوك والشركات والهيئات العامة وضرائب الأجور، أى الموارد المحصلة من عامة الشعب والمؤسسات المملوكة للشعب. الهدف من الدعم هو تخفيض تكلفة الانتاج لشركات حديد التسليح كى توفر ذلك الانتاج للشعب بسعر منخفض، فإذا كانت ممارسات الشركات تتنافى مع ذلك الهدف فإن الدعم يصبح غير مبرر ويجب إلغاؤه، كما يجب أن يقترن ذلك الإلغاء بتحديد هامش الربح لتلك الصناعات للحيلولة دون نقل العبء إلى المشترى المحلي. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى