حول واقع ومشكلات البحث العلمى فى مصر وكيفية مواجهتها والطموحات المأمولة،أجرت «قضايا فكرية» هذين الحوارين مع كل من الدكتورعلاء عوض أستاذ الكبد بمعهد تيودور بلهارس للأبحاث، وهو طبيب عالم نابه ومفكر مهموم بحاضر ومستقبل مصر والعالم العربى، وله عديد من البحوث العلمية فى مجال تخصصه العلمى، وكثير من المقالات الفكرية التى تنطوى على رؤية تنادى بضرورة استقلال البحث العلمى عن السلطة التنفيذية حتى يؤتى أكله وتنضج ثماره.. والدكتورة هدى أبو شادى أستاذ الفيزياء النووية بكلية علوم القاهرة والمدير التنفيذى لمركز الدراسات النووية للأغراض السلمية،الطامحة إلى نهضة مصرية وعربية فى مجالات الطاقة والعلوم النووية والذرية،والمهمومة بهذه القضية، ولديها رؤية تستحق الطرح، تختلف على نحو ما عن رؤية محاورنا الآخر وبه نبدأ الحوار : ما تصورك للبحث العلمى وشروط ازدهاره؟ البحث العلمى عمل إبداعى ممنهج، ولا يمكن تصور ازدهار أى إبداع فى غياب مناخ الحرية.فالحرية الأكاديمية من أساسيات البحث العلمى، يجب استقلال هيئات ومؤسسات البحث العلمى تماما عن السلطة التنفيذية على المستوى الإدارى والمالي والأكاديمى، وتوفيرضمانات تسمح للباحث بالتفرغ لعمله دون أن يضطرلعمل إضافى.كل هذا يتطلب تغييرات هيكلية عميقة فى بنية منظومة البحث العلمى. وكيف تقيم وضع البحث العلمى فى مصر؟ حددت اليونسكو عدة مؤشرات لقياس درجة تطور البحث العلمى فى البلدان المختلفة، تتضمن نسبة الإنفاق على البحث العلمى من الناتج القومى العام ونسبة الإسهام فى النشر العلمى وبراءات الاختراع بالإضافة الى أعداد الباحثين قياسا لعدد السكان الإجمالى وكذلك الدورات التدريبية المختلفة. والواقع ان الانفاق على البحث العلمى فى مصر يقل عن 0.2% من الناتج القومى،وتقل إسهاماته فى النشر العلمى المحَكّم عن 0.15%،وهناك نقص شديد جدا فى أعداد الباحثين وبراءات الاختراع. كل هذه الحقائق تؤكد مدى تدهور هذا القطاع. ومن الأسباب الجوهرية، البيروقراطية الشديدة التى يعانيها البحث العلمى وانتشار الفساد داخل جهازه البيروقراطي.أضف إلى ذلك أن أقل من10% من ميزانية البحث العلمى هى ما يتم إنفاقه فعليا على الأبحاث والرسائل العلمية, لغياب الخطط البحثية القومية التى تلبى احتياجات التنمية، وأيضا لتعدد جهات الإنفاق، فهناك صندوق تنمية البحوث والتكنولوجيا، وميزانيات المشروعات البحثية الداخلية فى الجامعات ومراكز البحوث بالإضافة إلى ميزانيات البحوث المشتركة مع الأطراف العلمية الدولية. هذه التعددية تؤدي بالضرورة الى تكرار وازدواجية البحوث.وبالتالي،فإنه بدون إيجاد حلول لكل هذه المعضلات الوظيفية والهيكلية، لن يمكن عبور الأزمة مهما يزد حجم التمويل. ما الحلول الممكنة فى رأيك؟ لابد من إرادة سياسية حقيقية تتجه نحو عملية تحديث شاملة فى المجتمع، ووضع أجندة للبحث العلمى تستعيد له دوره. ولابد أيضا من المشاركة المجتمعية فى صياغة التوجهات البحثية ومتابعتها وممارسة دور رقابي تجاهها. مثلا لا يمكن تصور صياغة مستهدفات بحثية فى مجال زراعة القمح دون أن يكون لاتحادات الفلاحين دور فى تحديد احتياجاتهم. نحن بحاجة إلى إعادة صياغة هيكلية لهذا القطاع تسمح بالمشاركة المجتمعية والوصول لآليات لتعيين الباحثين وترقياتهم. أليست لدينا إنجازات أو حتى محاولات؟ الواقع أن تطوير البحث العلمى فى مصر يظل قائما رغم اتساع الفجوة المعرفية بيننا وبين الغرب،ويمكن تطوير البحوث فى مجالات ترتبط ارتباطا وثيقا بمشكلات تنموية ملحة مثل إنتاج القمح ونقص المياه والتصحر ومشكلات الطاقة وصناعة النسيج وغيرها،وهناك بالفعل محاولات عديدة بل وإنجازات فى البحوث الزراعية فى مجال القمح،ولكنها محاولات فردية(جزر معزولة) بحاجة إلى الاندماج فى مشروع تنموى أشمل بما يسمح لها بالتطور العلمى وتحقيق مردود ملموس. فى شرق آسيا ظواهر لافتة، لماذا تأخرنا ولماذا انطلقوا؟ قلت إن نصيب البحث العلمى ضئيل للغاية لا يتعدى 0.2% من الدخل القومى، بينما المعدلات العالمية تتراوح بين 3و5% وفى كوريا الجنوبية يصل المعدل إلى 4% وتصل فى بعض البلدان إلى 7% ، وبدءا من نهاية التسعينيات تضاعفت ميزانيات البحث العلمى فى شرق آسيا ، بينما تعانى هذه الميزانيات فى مصر التقلص. فى تقرير لليونسكو عام 2008 كان معدل إنفاق الدول العربية على أنشطة البحث العلمى 14.7 دولار سنويا لكل مواطن بينما كان المعدل فى الولاياتالمتحدة فى العام نفسه 1205 دولارات. هذه الحالة من الاحجام عن الانفاق لايمكن تفسيرها فقط بمحدودية موارد الدولة،ولكنها بالأساس ناتجة عن التهميش وغياب الدور الوظيفى للبحث العلمى وفقدان الثقة لدى الحكومات فى ضرورات وجوده. دستور 2014 نص على رفع المعدل إلى 1% من الناتج القومى، وبرغم أن هذه النسبة مازالت ضئيلة فإنها أفضل، ولكن تبقى حقيقة أن هذا النص لم يتم تفعيله بعد، وأن زيادة الإنفاق لابد أن تكون مرتبطة بتوسيع قاعدة الأداء الوظيفى للبحث العلمى بمواجهة تحديات التنمية والتحديث. وماذا عن دور القطاع الخاص؟ نسبة تمويل القطاع الخاص فى مصر للابحاث العلمية أقل من 10%.ومنذ بدايات سياسة الانفتاح الاقتصادى فى عهد السادات ازداد دوره الاقتصادى الذى تمركز فى الأنشطة التجارية والعقارية والمصرفية وكانت مشاركته فى الصناعة محدودة للغاية ومحصورة فى نطاق الصناعات التجميعية والصناعات الغذائية والصناعات الملوثة للبيئة والمطرودة من أوروبا.ونظرا لمحدودية هذا النشاط الاقتصادى، أصبح الاحتياج للبحث العلمى أيضا محدودا بالضرورة، وغابت احتياجات تطوير التكنولوجيا التى اعتمد هذا القطاع على استيرادها كاملة بل وعلى استيراد عمليات صيانتها فى كثير من الأحيان. بينما فى الستينيات،حين كانت هناك قاعدة صناعية فى القطاع العام وكانت لدينا مجموعة من مراكز البحوث والتدريب الصغيرة و الملحقة بالمصانع مثل شركة النصر للتليفزيون وشركة المراجل البخارية وبالرغم من محدودية دورها، فإنها كانت تمثل بذرة لعلاقة ممكنة بين البحث العلمى والصناعة، ومع ظهور سياسة الخصخصة التى دمرت كل هذه الكيانات الانتاجية، انهارت هذه المراكز الصغيرة وانهارت معها طموحات ربط البحث العلمى بالصناعة و الإنتاج.والواقع انه فى ظل غياب أى امل فى ان يلعب القطاع الخاص دورا محوريا فى التنمية والتصنيع، سيبقى إسهامه فى البحث العلمى شديد التواضع. وماذاعن إعداد وبناء الباحثين؟ بناء الباحث العلمى عملية معقدة وهى مهمة مجتمعية بامتياز يشارك فيها عديد من الأجهزة.فلا يمكن بناء عقليات تمتلك القدرة على البحث المنهجي دون صياغة برامج تعليم تعتمد على تشجيع روح الابتكار والمعرفة النقدية. على صعيد آخر، هناك ظاهرة غياب الثقافة العلمية، استبدلت لها الخرافة التى باتت تشكل جانبا ملحوظا فى البنية الثقافية فى مصر والدول العربية كنتيجة لتحولات اجتماعية واقتصادية عديدة، وهى ظاهرة لها اثر سلبى ضخم على التعاطى المجتمعى فى مجمله مع القضايا العلمية، وتقف حجر عثرة امام اى عملية جدية لبناء الباحث العلمى. وأتذكر، حينما كنت تلميذا بالمرحلة الابتدائية كنت أتابع بدأب شديد أنشطة نوادي العلوم بجريدة الأهرام وسلسلة دورية فى تبسيط العلوم كانت تصدرها دار المعارف، وزرت متحف العلوم فى باب اللوق بالقاهرة عشرات المرات،أين ذهبت هذه الأنشطة والإصدارات، وما مصير هذا المتحف الآن،لا أدرى. د.هدى أبو شادى: مفتاح الحل.. البرنامج النووى د. هدى أبو شادى كانت جاهزة بخطة عمل وبدأنا الحوار معها بالسؤال: فى البحث العلمى من أين يجب أن نبدأ؟ من المدرسة بل من الحضانة، ونحتاج إلى عشر سنين جرى وتسابق علمى، ويجب أن تكون أم الطفل صديقة للمعلمة وتتشاركان معا فى ملاحظته ومتابعته، لينشأ محبا للعلم. ولابد من تعاون 4 وزارات (الإعلام والثقافة والتعليم والصناعة)، الإعلام يجب ألا تكون متحدثا باسم الحكومة بل باسم الشعب،واجبها الأول تقديم وجبات تعليمية فى إطار ترفيهى،لماذا لا تترجم كل البرامج العلمية بدلا من المسلسلات الهندية والتركية؟ تعليم بلام درسة؟ بالضبط، أين الثقافة العلمية، أين الموسوعات العلمية؟أين الكتب المناسبة لكل مرحلة فى كل التخصصات،موسوعة كل العلوم ترجمتها وزارة الثقافة عن الفرنسية، لو أصبحت متاحة فى كل مدرسة ماذا سيحدث؟ لماذا لا نقيم مسابقات قراءة صيفية للطلاب بتكليفات قرائية محددة، مقابل درجات تضاف إلى المجموع ؟ ولابد من أربعة عناصر أساسية: العزيمة العلم العدل العمل،نحن نحتاج أدوات أخرى فى التدريس وفى البحث العلمى. متخلفون فى البحث العلمى أم متأخرون؟ فقط متأخرون،لأننا وقفنا فتراجعنا، والسبب تأجيل البرنامج النووى المصرى، ولا أفهم لماذا نؤجل. ربما لنقص المال والتكلفة باهظة؟ وهل مليار جنيه مبلغ كبير على مصر أوكثير على مشروع شديد الأهمية يخدم كل مجالات الحياة،لو عرضنا على العرب المشاركة ولو طلبنا من المصريين التبرع، ولوعرضنا كهرباء بخصم30% لمدة 10 سنين على أى صاحب مصنع مقابل المشاركة فى التمويل هل سيتأخر.ويمكن فرض مبالغ محددة على الأثرياء. الاستثمار فى الطاقة مربح،المفاعل يعمل40 سنة ونحن سنواجه مخاطر كبيرة فى نقص المياه والتصحر، بعد بناءالسد الاثيوبى ستقل المياه وراء السد العالى ويقل انتاج الكهرباء بسبب قلة القوة الدافعة للتوربينات، ولابد من طاقة نظيفة. وما البرنامج المقترح؟ 3 مفاعلات، الأول سيساعد عائده بعد اكتماله فى بناء الاثنين الآخرين. كم من الوقت يحتاج البناء؟ 5 سنوات، لو بدأنا اليوم ننتهى فى 2019. ما المكان الأنسب؟ القريب من البحر،لابد من مصادر مياه للتبريد، ولذلك فالضبعة مكان مثالى للإفادة من ماء البحر فى التبريد والتحلية. هناك من يعترض بأن هذا المكان هدف سهل تدميره؟ إذا حدث سينال الضرر المعتدى أيضا. وهل عندنا العلماء الخبراء؟ عندنا ولكن حتى هذا ليس مهما،نحن لم نصنع السيارة ولا الكمبيوتر ولكننا نستخدمهما ويمكن أن نفعل ذلك فى المفاعل، وفيما بعد يمكن أن نفعل كل شيء،كوريا استوردت أول3 مفاعلات كاملة وبعد ذلك شاركت فى البناء ثم فى التصميم وعند المفاعل رقم 12 كانوا يصممون المفاعلات، لا أحد يبدأ من النهاية. وما العائد المتوقع؟ كبير جدا، فى كل المجالات، الصناعة، الزراعة الطب (خاصة علاج السرطان)،تحلية مياه البحر، زراعة الصحراء وتنمية الساحل الشمالى،وتنمية القرى والصعيد الذى يعانى الفقر المدقع، ستنتهى مشكلة الكهرباء التى تنقطع كثيرا الآن وفى الصيف ستتفاقم مع تشغيل المكيفات،يمكن تشغيل المدارس 3 فترات والاستفادة بالأجهزة المتاحة بالمستشفيات الريفية، أجهزة القلب والحضانات وغيرها،التوسع فى بناء المستشفيات للرعاية الصحية. سيتم تصدير الكهرباء الفائضة للبلدان الإفريقية وغيرها.أضف إلى ذلك المجتمعات العمرانية التى ستقوم بجوار المفاعلات لخدمة العاملين فيها،هذا أمر حتمى،بناء مدارس ومستشفيات وخدمات اجتماعية مجانية أو بأجور رمزية جدا، لابد من عروض مغرية تجذب الناس الى المكان حتى تتحقق التنمية سريعا، لكى ننمو لابد من الكهرباء والماء، الماء للزراعة والكهرباء لتشغيل كل الأجهزة. أحلام جميلة. ماذا عن واقعنا؟ هل حقا تؤجر الأجهزة للباحثين؟ نعم، أو تغلق عليها المعامل دون استفادة، يمكن للأستاذ الذى فى حوزته الجهاز أن يسافر ويغلق المكتب أو المعمل على الجهاز عدة سنوات، لدينا أجهزة لا تخدم البحث رغم الحاجة الملحة اليها فى كل جامعات مصر، ولدينا أجهزة مكررة رغم أن ثمن الجهاز ملايين الجنيهات، هذه الحالات يجب حصرها وأى أستاذ لم تتحقق الاستفادة من الجهاز الذى لديه فى البحث العلمى خلال ثلاث أو أربع سنوات يجب سحبه منه. هل هناك نقص فى الأجهزة اللازمة للبحث؟ نعم ونستعين بأجهزة الطاقة الذرية بأجر، رغم وجود أجهزة لا تستخدم الاستخدام الامثل.يجب جرد كل الأجهزة الموجودة فى جامعات مصر،وتصنيفها،والاستفادة بها، يجب أن تتاح هذه الأجهزة لجميع الباحثين دون مقابل،الجامعات حصلت عليها مجانا فلماذا لا تتيحها للباحثين مجانا،كيف نترك الباحث يشترى العينات على نفقته ونضطره إلى إجراء البحث على 20 عينة إذا كان يجب أن يجريه على 100عينة،كيف تتحقق النتائج المرجوة؟ لا تتحقق ولا ينشر البحث فى مجلةعالمية محترمة، مطلوب بيئة صحية تهتم بالبحث العلمى وبالباحثين ولا تهمل أبحاثهم بل تطورها وتوجهها لخدمة المجتمع، ولابد أيضا من إعداد المدرس الجامعى والمدرس الثانوى والإعدادى والابتدائى. ألا تتعاون الجهات العلمية المصرية فيما بينها، والمركز الذى تديرينه؟ المركز أنشئ فى مايو الماضى ونتعامل مع جهات مصرية،وأُفَضل هيئة الطاقة الذرية،وأبذل جهدا ليكون المركز هيئة معتبرة، ولم أجراتفاقيات مع الهيئات العلمية العالمية لأن لمثل هذه الاتفاقيات اشتراطات أمنية. وهل لهذه الاشتراطات تأثيرعلى الانطلاق البحثى وتحقيق الأهداف؟ نعم..هذا الأمر معطل بالفعل وكيف يمكن التغلب على هذه المشكلة؟ بالمتابعة الجادة الواعية من الجهات المسئولة. هل لابد من مساعدات أو خبرات أجنبية فى بناء المفاعلات؟ نعم, فرنسا أو روسيا أو أمريكا،كان عندنا الجيل الذى بنى المفاعل الأرجنتينى ولكنه كبر ولابد من إعداد جيل جديد، فقط يجب توافر الإرادة السياسية، وساعتها ستتسابق كل المراكز والهيئات المعنية. وتأهيل الفنيين؟ قمت بإعداد برنامج تدريسى بالاشتراك مع أحد أساتذة الهندسة النووية وخلال سنتين يمكن إعداد فنيين للعمل فى كل المنشآت النووية فى مصر والدول العربية، وأحاول اعداد برامج تكنولوجية لإعداد العاملين، عندى أمل أن مصر ستقدم على هذا المشروع المهم،اليابان عادت إلى المفاعلات الآن بكل طاقتها، فرنسا 85%من طاقتها نووية،فقط نحن فى انتظارالتمويل. كم عاملا يحتاج المفاعل؟ 1000 فنى و100 مهندس و100 فيزيائى،والفنى لابد ان يكون عالى المستوى، ولكى يتعلم جيدا لابد من توفير المعامل المناسبة. ما المشكلة التى تواجهينها ولا تجد حلا؟ التمويل،لابد من التمويل الداخلى، لأن التمويل الخارجى يملى شروطه، وأطالب بتمويل الجامعات العامة. متى يمكن أن تدخل مصر صف البحث العلمى العالمى؟ يمكن على الفور. وماذا يمنعنا؟ غياب الإرادة السياسية.